الإشكال الفلسفي في فكر هابرمس

الفلسفة  : حُب الحكمة             الفيلسوف : مُحب الحكمة 

والفيلسوف هو الذي رهن جُل حياته في البحث عن الحكمة

——————————————————————————-

العدد الرابع

آذار 2010

——————————————————————————-

الفيلسوف

مجلة فلسفية إلكترونية متخصصة


————————————————————————————-

4

Jurgen Habermas : Philosophical Questions

Dr. Mohamad Farhan, Philosopher

الإشكال الفلسفي في فكر هابرمس

الدكتور محمد جلوب الفرحان       

       رئيس قسم الفلسفة سابقاً ورئيس تحرير مجلة أوراق فلسفية جديدة     

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

    * من زاوية الفيلسوف        

  تتشابه الظروف : ظروف المانيا لحظة الانهيار وظروف بلاد الرافدين لحظة الاحتلال . فقد ظهر هناك ( فلاسفة ) غير شرعيين ، أجرهم مدفوع بالدولار ، يدعون لنمط من الثقافات لا تنتمي بصلة الى الفلسفة الالمانية العتيدة .أنها أنماط ثقافية هجينية باركتها  ( او فرضتها ) قوات الاحتلال  على المانيا المهزومة المدمرة  .و خصوصا امريكا التي لعبت دورا رئيسا في تجميع الاموال من الشرق والغرب لاعادة بناء المانيا ، ومن ثم  عملت بكل جهد على تطبيع الجمهورية الالمانية الجديدة مع دول التحالف التي دمرت المانيا سياسيا وايديولوجيا ، ثقافيا وتربويا  …

    ولكن في بلاد الرافدين الموقف مختلف ، فثرواته متنوعة ، تكفي لبناء عراق جديد رغم عمليات النهب المنظمة من قبل قوات الاحتلال والانظمة الدائرة معها ، والساعية الى تنفيذ سياسات تفكيك وحدة  تراب العراق  …

  وهنا على أرض الثقافة والحضارة ، تجري دعوات استنساخ لانماط  تفكير ” فلاسفة الجمهورية الالمانية الجديدة ” و تسعى الى اشاعة نمطها الهجيني ،  ثقافة عراقية جديدة … ونحسب في الهجيني : ثقافات سوداوية ومناهج توفيق ، ترضي توجهات اصحاب القرار ، وتلامس مزاج قوات الاحتلال ..

هذه المقالة هي واحدة من سلسلة مقالات ، تحفر وتنقب عن هوية المنتوج الفكري لواحد من أكبر (فلاسفة) الجمهورية الالمانية الجديدة.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

تقديم:

هل مؤلفات وأبحاث المفكر الالماني يورغن هابرمس ( لا زال حيا –1929) تقدمه فيلسوفا ؟ ام  تقدمه عالم اجتماع سياسي ؟

   حقيقة اننا نجد في مؤلفاته وابحاثه ، المقياس العلمي الموضوعي الوحيد ، الذي يحسم أشكالات  مثل هذا النوع ، ويفصح عن حكم ، لا انحياز فيه الا للحقيقة ،الحقيقة التي تطبع هذه الكتابات ،و التي كثر و سيكثر حولها الجدل .

   ان بداية هابرمس الاكاديمية كانت مع الفلسفة ، وخصوصا في أطروحته الاولى ، والتي كانت بعنوان ” التاريخ والمطلق : حول التناقض في فكر شيلينج “. ولكن  حدث طارئ غير محسوب في قدر هابرمس الفلسفي ، وهو اختلاف بين المشرفين على أطروحته ، فكان هذا الاختلاف هو نقطة الانعطاف من حضرة الفلسفة  ، والتحول  الى  محيطات علم الاجتماع السياسي المتنوعة . وفعلا فأن هابرمس  بدأ في كتابة اطروحة  جديدة ، وانجزها في جامعة جديدة ، وتحت اشراف استاذ جديد ، وفي مضمار جديد لا علاقة له بالفلسفة . وكانت الاطروحة الجديدة بعنوان ” التحولات البنيوية للاوضاع الاجتماعية : تساؤلات ضمن أصناف المجتمع البرجوازي ” .

   هذه كانت البداية في الاشكال الفلسفي في فكر هابرمس ، البداية التي رسمت لاحقا اشكالا في اختيار نوع الاعداد الاكاديمي ، ومن ثم الخيار في تحديد التوجه المهني . وهذا الاشكال سيظل ملازما ” لفيلسوف الجمهورية الالمانية الجديدة ” طول حياته ، كما سيكون سمة مميزة لكتاباته وابحاثه ومحاضراته .

  وعلى اساس هذا الاشكال ننظر الى مجمل اعمال هابرمس الفكرية  ،  فهي من الوفرة ، فقد بلغت الخمسين مؤلفا ، وهي من التنوع  حيث شملت موضوعات فلسفية ، تخص الباحث في الشأن الفلسفي ،  وهي مطمورة تحت طوابق عمارته  الثقافية السياسية – الاجتماعية النفسية ، وموضوعات اخرى امتدت خارج حدود دوائر التفكير الفلسفي . موضوعات تقع مباحثها في  معاقل علم الاجتماع السياسي ، وهذا هو حقل اختصاصه ، وهوالحقل الذي يشاركه فيه اعضاء مدرسة فرانكفورت .

   وهناك وجه اخر من الاشكال في كتابة نصوصه  ، فبعض عنواين مؤلفاته تحمل في طرف منه عنوانا فلسفيا ، وفي الطرف الاخرعنوانا اجتماعيا ، كما وان المعالجة لهذا العنوان الفلسفي ، جاءت ليست معالجة فلسفية ، وانما هي بحث من زاوية ومنهج علم الاجتماع السياسي .واستنادا الى هذا الطرف من الاشكال نحسبه منظرا  في علم الاجتماع السياسي اولا وقبل كل شئ  .

    نعود الى وجه اخر من الاشكال ، فقد وجدنا ان الدراسات التي عنت بفكرهابرمس وسيرته الذاتية  ، لا تقدمه على انه فيلسوف ، وهذا حق ، وانما تقدمه على انه ” اهم علماء الاجتماع والسياسة في عالمنا المعاصر ” . ومن ثم تضيف الى انه ” من اهم منظري مدرسة فرانكفورت النقدية ” .  

   ولعل لفظة ” الفيلسوف ” التي منحت لهابرمس ، جاءت لا لنتاجه الفلسفي ، وانما لجهوده في علم الاجتماع السياسي ، ولمثابرته المتميزة في مدرسة فرانكفورت النقدية . كما ان لقب الفيلسوف صدر من قبل رجل دولة ، وهو وزير الخارجية الالماني  ” يوشكا فيشر ” الذي وصف هابرمس على انه ” فيلسوف الجمهورية الالمانية الجديدة ” .  ان لقب الفيلسوف هنا ، ليس اصطلاحا مهنيا ، دالا على عمل هابرمس ، وانما هو اصطلاح مجازي ، المقصود به منظر او ” مفكر الجمهورية الالمانية الجديدة ” .

   وهذا الاصطلاح يذكرنا بوسائل الاعلام السياسي لهذا النظام او ذاك ، والتي تخرج علينا بين فترة واخرى بمسميات مثل : فيلسوف الجمهورية ، ومهندس الحركة …. ومعمار التغيير …. وهكذا ..  وأحسب أنه من النافع  ان أشيرالى أن استاذي العالم المنطقي العراقي الدكتور ياسين خليل عبد الله ، طيب الله ثراه ، كانت وسائل الاعلام العراقية ، تطلق عليه  فترة حكم الرئيسين عبد السلام وعبد الرحمن عارف ، لقب        ” فيلسوف الاتحاد الاشتراكي ” . هذا اصطلاح وسائل الاعلام ، وتقصد به ” مفكر الاتحاد الاشتراكي ” . اما الحديث عن ” الفيلسوف ياسين خليل ” ، فان كتبه المنطقية ، وكتبه في فلسفة العلوم ، تدلل على انه فيلسوف وعالم منطقي .

    غرضنا هنا ان نصحح من زاوية أكاديمية ما هو شائع خطأ في دوائر الثقافة عموما ، والعربية منها على وجه الخصوص . الخطأ الشائع على ان هابرمس فيلسوف . ونحن نجادل على انه عالم اجتماع سياسي ، وذلك لان هناك اختلاف في الموضوع الذي تدرسه الفلسفة ، عن الموضوع الذي يبحث فيه علم الاجتماع السياسي  ، وكذلك اختلاف في المنهج و أختلاف في طوابق العمارة لكل منهما .هذا جانب  اخر من الاشكال في تقويم هابرمس كعالم اجتماع وليس فيلسوف . فمثلا ان عمله الاكاديمي يقدم كشفا واضحا على هذا الاشكال ، فقد بدأ طالب فلسفة ، وكتب اطروحته عن الفيلسوف شيلينج . الا انه هجر الفلسفة ،  وهجر اطروحته وهجر جامعته ، وتحول الى جامعة اخرى و كتب اطروحة جديدة في علم الاجتماع السياسي . هذا حق وليس فيه افتراء على  الرجل هابرمس .

    ونحن من طرفنا نحب الفلسفة ، ولا نتخلى عن احد من فلاسفتنا ، فهم رصيدنا الدائم . ولكن هابرمس كان حرا في اختيار الفلسفة مسارا اكاديميا في البدأ . وكان حرا في هجرها والتحول الى جادة علم الاجتماع السياسي ،والذي اختاره اكاديميا ، و من ثم  فضله مهنة له، واصبح من خلال نظرياته في علم الاجتماع السياسي ، علما من اعلام الجيل الثاني لمدرسة فرانكفورت النقدية ،والتي أكسبته شهرة عالمية . وانه ظل مواكبا على الكتابة في مجالات متنوعة من علم الاجتماع السياسي ، وحتى ان تناول عنوانا فلسفيا في كتبه ، فأنه لم يبحثه كفيلسوف ، وانما درسه من زاوية اجتماعية سياسية . وهو مستمر في نهجه الاجتماعي السياسي حتى هذه اللحظة .

 هابرمس: من مقاعد التعليم الفلسفي الى معاقل علم الاجتماع السياسي :

  ولد يورغن هابرمس في دوسلدورف ، شمال الراين ، في 18 حزيران 1929 . نشأ في أسرة بروتستانتية . وهذه النشأة ستكون لها دلالات في توجهاته النقدية المتحررة من اية قيود ، و من ثم في تطوير أرائه العلمانية ، ومواقفه من فصل الدين ومؤسساته عن الدولة ومؤسساتها .

   وكان والده أيرنست هابرمس ، مديرا تنفيذيا لغرفة الصناعة والتجارة . ويصف هابرمس والده ، فيقول : كان والدي ” متعاطفا نازيا ” .  وهذه الحقيقة مفيدة ، في فهم توجهات المفكر هابرمس ، والتي بدأت منذ وقت مبكر تنزع الى التفكير في مشروع مصالحة بين المانيا المنهزمة وقوات التحالف ( امريكا مثلا ) . وبين المانيا القديم والمانيا الراهن ، بين الثقافة الالمانية والثقافة البراجماتية .

   ونلحظ ان هابرمس انحاز الى الثقافة الامريكية ، واصبح رمزا من رموز براجماتيتها . وهذه حقيقة اخرى تنفع الدارس في فهم مشروعه في المصالحة . وهنا لا بد من الاشارة الى اشكال اخر طبع  مشروعه في التصالح ، فهو لم يكن شاملا للمصالحة ، وانما كان انتخابيا ومزاجيا ، فأنه لم يشمل الفيلسوف مارتن هيدجر مثلا وليس حصرا. بل على العكس عمل بكل نشاط على تحريض الدولة ، ومن ثم الدول المنتصرة ، والجمهور الالماني ضد هيدجر .  

     وعندما كان في الخامسة عشرة ، التحق في منظمات شباب هتلر ، وأرسل الى جبهات القتال للدفاع عن الحدود الغربية ، وكان ذلك بالتحديد في الاشهر الاخيرة من الحرب . وقد تركت تجربته كشاهد على مجريات الحرب و من ثم الهزيمة اثرها في التفكيرفي مشروع المصالحة  ، لا بين الالماني الالماني ، ولكن بين الالماني المنهزم وبين الاوربي – الامريكي المنتصر.

    اما تعليم هابرمس الاكاديمي ، فقد اخذ منحى مهما في حياته ، ومن ثم في تحديد مسارات مستقبله ،كما ان تعليمه يقدم فهما للتحولات الجارية في اختياراته المهنية . فنلحظ انه بدأ دراساته الاكاديمية في جامعة جوتنجتين للعام الدراسي 1950 – 1949 . ومن ثم تحول الى جامعة زيوريخ ، ودرس فيها عاما دراسيا 1951 – 1950 . واكمل دراساته الاكاديمية في جامعة بون 1955 – 1951 . ومن ثم انهى كل متطلبات التأهيل الاكاديمي ، التي تسمح له الانخراط في برامج الدكتوراه .

    وفعلا انخرط هابرمس في برنامج الدكتوراه في جامعة بون . ونال درجة الدكتوراه منها في العام 1954  ، وكان عنوان  اطروحته ” المطلق والتاريخ : حول التناقض في فكر شيلينج ” . ولعل من المفيد ان نذكر الى ان من بين اعضاء لجنة اطروحته ، كان كل من : اريك روذاكير ، واوسكار بيكر . وفي العام 1956 درس الفلسفة وعلم الاجتماع في معهد البحث الاجتماعي ، على يد المنظرين النقديين : ماكس هوركهايمر ، وثيودور ادرنو ، و هما من الجيل الاول لمدرسة فرانكفورت ، وهي المدرسة التي سينتمي اليها لاحقا ، وسيكون واحدا من ألمع ممثليها من الجيل الثاني .

   ولكن أثناء عمله في اطروحة الدكتوراه ، حدث ما لايرضي هابرمس ، وسبب محنته مع الفلسفة الدائمة ، ومع مدرسة فرانكفورت الموقتة ، وهو نشوب خلاف بين هوركهايمر وأدرنو حول اطروحته ، وهما المشرفان عليها ، مما حمله الى ترك معهد البحث الاجتماعي ، و هذا طرف من محنته يومذاك . اما الطرف الاخر لتركه مدرسة فرانكفورت ، هو انه وجد ان المدرسة اصبحت اكثر شكوكية ، وتنظر الى الثقافة الحديثة بمنظار سياسي دوني . هذه المحنة تركت اثارها العميقة في خيارات هابرمس الاكاديمية وخصوصا في مجال البحث الفلسفي ، والمهنية وذلك بأختيار علم الاجتماع السياسي ميدان عمل له  .

   بسبب هذه المحنة ، ترك هابرمس الفلسفة مع اطروحته السابقة ، وتحول الى دراسة العلوم السياسية في جامعة ماربورج ، على يد الماركسي ولفجانج ابيندروت . وكان عنوان أطروحته الجديدة ” التحولات البنيوية للاوضاع الاجتماعية : تساؤلات ضمن أصناف المجتمع البرجوازي ” .

هذا التحول لم يكن تحولا من جامعة الى اخرى ، وانما تحولا من منهج فلسفي الى منهج العلوم السياسية ، وقبولا بموجهات ماركسية لنهج هابرمس ، وبالتأكيد هذه الاثار واضحة في التحولات البنيوية  للاوضاع الاجتماعية…

   ان هذا التحول ولد ثنائية اكاديمية ومهنية ، ترجح علم الاجتماع السياسي ، مع استبطان للفلسفة لحظة صياغة النظريات الاجتماعية والثقافية . فمثلا اصبح عام 1961 استاذا لعلم الاجتماع السياسي في جامعة ماربورج ، وفي الوقت ذاته استاذا للفسفة بدون كرسي في جامعة هيدلبيرج . وما يدلل على هذه الثنائية في الاختصاص والعمل . انه عاد في العام 1964 الى مدرسة فرانكفورت ، مدعوما من قبل ادورنو لتولي كرسي هوركهايمر في ميداني الفلسفة وعلم الاجتماع .

   وأفهم من دعم أدورنو الى ان المعارض لاطروحة هابرمس الفلسفية في معهد البحث الاجتماعي ، كان هوركهايمر . ولذلك قبل هابرمس العودة الى مدرسة فرانكفورت بعد موته ،  ومن ثم العمل مع أدورنو جنبا الى جنب .

   وفي العام 1971 اصبح مديرا لمعهد ماكس بلانك في ستيرنبيرج  ، و لاكثر من عقد من الزمن . وفي العام 1981 نشر كتابه الشهير ” نظرية الفعل التواصلي ” . وفي العام 1983 عاد الى كرسيه (الفلسفة والاجتماع) في مدرسة فرانكفورت ومديرا لمعهد البحث الاجتماعي . وتقاعد في العام 1993 من فرانكفورت . 

  الاشكال الفلسفي في كتابات هابرمس:

      نسعى هنا الى معالجة الاشكال الفلسفي في كتابات عالم الاجتماع السياسي هابرمس ،  ونحسب على اساس الفهم السابق ان جريدة مؤلفاته ومحاضراته ، تدلل على انه عالم اجتماع سياسي  . فمثلا نلحظ ان هناك  أشكالا هيمن على رؤية هابرمس ، وبالتحديد الى فاشية الفيلسوف مارتن هيدجر .

    فقد ألقى هابرمس في الخمسينيات من القرن العشرين ، محاضرة عن الفيلسوف الالماني الوجودي مارتن هيدجر . واحسب ان هذه المحاضرة لم تتركز على فلسفة هيدجر ، وانما جاءت تنديدا بمواقف هيدجر . وترك هذا التنديد النقدي اثره في الجو الثقافي الالماني يومذاك .

    و للقارئ اقول ، حينما قرأت اصل المحاضرة باللغة الانكليزية ، وجدت مايخيب رغبتي الفلسفية . وجدت نقد هابرمس للفيلسوف الالماني الوجودي مارتن هيدجر ، قد تخطى اطروحات ومناهج الفلسفة . ولم اجد  هابرمس  يقارع هيدجر حجة فلسفية بحجة فلسفية مقابلة .

    كان كل شغل هابرمس هو الاشتغال بمنهج التنديد ، واللوم من جرائم نظام الاشتراكية الوطنية الذي قاده هتلر ، ومجموعته التي حكمت المانيا وسببت الحروب والخراب للالمان والانسانية على حد سواء  . فمثلا ربط هابرمس بين ما أسماه “فاشية ” هيدجر وقيادة الاشتراكية الوطنية ، وذكر المواطن الالماني بان هيدجرامتدح نظام الاشتراكية الوطنية ، بل واشار الى انه كان عضوا في الحزب النازي .

 من ثم رفع سؤالا أعفى نفسه منه ، وهو : ” هل ممكن اعتبار قتل الملايين ، هي قضية قابلة للفهم  ؟ ” .  أقول للقارئ بان هيدجر لم يقاتل في الجبهات الحربية مثلما فعل هابرمس . ولكن هي عقدة الذنب التي يعاني منها هابرمس وجيله الذي تربى في منظمات شباب هتلر، والتي قاتلت صفا صفا عن سياسات هتلر في الحدود الغربية . ان هذه المحاضرة في مجملها هي عبارة عن تصفية حسابات عقدة الذنب ، ومن ثم التكفير عنها ، عن طريق استهداف مارتن هيدجر .

   ونحن ننظر الى هيدجر بمنظار مختلف . فقد كان فعلا نازيا ، اي عضو في حزب الاشتراكية الوطنية بزعامة هتلر . ولكن يرى المنصفون من كتاب تاريخ الفلسفة الالمانية في القرن العشرين الى ان نازية هيدجر ، هي موضوع جدل مستمر . ونحن نرى انها لا تفهم الا في ضوء فلسفته الوجودية .  فمثلا من خارج الحزب النازي ، كانوا ينظرون اليه ، والى فلسفته خصوصا ، على كونها نقدية ، ساخرة من النظام . ومن زاوية النازيون ، المشرفون على برامج التربية والتعليم ، ينظرون  الى هيدجر على انه خصم لهم . في حين يسخر بعض اخر من النازيين منه ومن فلسفته . ونحسب هذا طرف من قضية نازية هيدجر . اما الطرف الاخر ، فممكن ملاحظته ، في المقابلة التي اجرتها صحيفة ديرشبيكل الالمانية مع هيدجر قبل وفاته . و كان هيدجر واضحا وصريحا . فقال ” أنه لا توجد أمامي بدائل يومذاك . اضافة الى انني كنت اشعر بأن تغييرا سيحدث في الاشتراكية الوطنية في القريب المرتقب ” . على كل أنها محنة الفيلسوف في عصر الدكتاتوريات التي لا توفر خيارات حرة للانسان .

    واخيرا اشير الى تقويم مؤرخ الفلسفة ” هانز صلوكه ” لسلوك هيدجر ، خصوصا عندما كان رئيسا للجامعة . ونشعر انه تقويم عادل . يقول هانز ” عندما كان رئيسا للجامعة منع الطلبة من وضع اعلانات معادية للسامية في مدخل الجامعة ، كما منع حرق الكتب . لكنه ظل محافظا على علاقاته الحميمة مع قيادات الطلبة النازيون ، واصدر اشارات دللت على انه متعاطف مع نشاطاتهم ” ( محمد جلوب الفرحان : مارتن هيدجر ومحنة الفلسفة الالمانية في القرن العشرين ) . 

   يعد كتاب التحولات البنيوية للاوضاع الاجتماعية (1962)  من مؤلفاته الاولى والذي نال شهرة ملحوظة ، وهذا الكتاب هو في الحقيقة اطروحته الثانية في العلوم السياسية . وقد كان عنوانها الكامل ” التحولات البنيوية للاوضاع الاجتماعية : تساؤلات ضمن أصناف المجتمع البرجوازي ” ، وذلك  بعد ان ترك اطروحته الفلسفية ، وهجرمعهد البحث الاجتماعي في مدرسة فرانكفورت ، وذلك لخلاف نشب بين الاستاذين المشرفين على اطروحته كم اشرنا اليها انفا .

     انتمى هابرمس الى مدرسة فرانكفورت ، واصبح مدافعا عن نظريتها النقدية ، والتي ستكون معلما متميزا من معالم مشروعه الاجتماعي السياسي . وهذه المدرسة ضمت الجيل الاول ،  وهم كل من : ( هوركهايمر ، أدورنو ، ماركوز ، واريك فروم ) . وكان هابرمس واحدا من اعضاء  الجيل الثاني لهذه المدرسة الماركسية . ولعل الفارق بين ماذهب اليه الجيل الاول وما اعلنه هابرمس ، يقوم على ان الرعيل الاول نزعوا الى    ” الاهتمام الشديد بحرية الانسان ” .

     اما هابرمس فقد نزع نحو شواطئ اخرى ، ركزت ” على تحليل الفعل والبنى الاجتماعية ” . وكذلك انه دافع بقوة عن مشروع الحداثة ، وبالتحديد عن مفهومي ” العقل والاخلاق الكليين ” . وكانت حجته في الدفاع عن الحداثة تنهض على ” انها لم تفشل ، لانها لم تتجسد اصلا ” ، وذلك لان الحداثة حسب رأيه ” لم تنتهي بعد ” . ومن المفيد ان نشير الى ان هابرمس يرى ان الحداثة أخذت بمشروع التنوير ، لذلك دعا الى ” العودة الى امتيازات التنوير ، والتي تتمثل بالنظام والعقل ” (محمد جلوب الفرحان : الاتجاهات الفكرية لاعضاء مدرسة فرانكفورت ) .

    كذلك اشتهر هابرمس بما يسمى برائعته ” نظرية الفعل التواصلي ” والتي نشرها في العام 1981 وخلال عمله مديرا لمعهد ماكس بلانك . وهذه الرائعة تنخرط في ميدان علم الاجتماع السياسي  . أضافة الى انه ،  طبق في هذا الكتاب نظريته ” الفعل التواصلي ” في ميداني السياسة والقانون . ودافع عن ” الديمقراطية الحرة ” والتي تكون فيها المؤسسات ، والقوانين الحكومية مفتوحة للجماهير لمناقشتها .

    لم تتشاغل دائرة تفكير هابرمس بالابستمولوجيا او على الاقل بنظرية المعرفة ، كمبحث فلسفي خالص . والحق انه قدم كلاما اسماه ” المصالح المعرفية ” ، وخصوصا في كتابه ” المعرفة والمصالح البشرية ” والذي صدر في العام 1968 . ولكن نجد انه استثمر فعلا في الاطار النظري لما اسماه المصالح المعرفية ، الارث الفلسفي الالماني ، وبالتحديد كانط ، شيلينج ، هيغل ، هوسرل ، ومزيج ماركسي براجماتي وكانطي جديد (محمد جلوب الفرحان : الاشكال الابستمولوجي في كتابات هابرمس ) .

     لم يبحث هابرمس في الاخلاق من زاوية فلسفية ( او الادق من زاوية اكسيولوجية ) . واحسب ان القارئ للاطار النظري لمشروع هابرمس في علم الاجتماع السياسي ، يلحظ ان هابرمس  اعتمد على حشد من الفلاسفة الالمان ، يتقدمهم كانط ، شيلينج ، هيجل  … ومزيج ماركسي براجماتي مع توظيف انتخابي لارث الكانطية الجديدة .  ولعل من المفيد للقارئ ان يعرف بان هابرمس بحث في الاخلاق من ناحيتين لا علاقة لهما بالفلسفة  : الاولى من زاوية اجتماعية نفسية وبتدوير سياسي . والثانية انه خصص كتاب له بعنوان ” أخلاقيات الخطاب ” . والحقيقة  ان هناك فارقا كبيرا بين المبحث الفلسفي للاخلاق ، والمعايير العملية لما يمكن ان نسميه ” بأداب الكلام او االخطاب والتصرف ” . كما تناول هذا الموضوع في كتابه الموسوم ” الوعي الاخلاقي والفعل التواصلي ” المنشور عام 1983 (محمد جلوب الفرحان : الاشكال الاكسيولوجي في الخطاب الاخلاقي عند هابرمس ) .

       هناك تلميحات الى المنطق في مباحث هابرمس ، واشارات الى فلسفة اللغة (والاصطلاح يشمل منطق اللغة او الخطاب) . ولكن السؤال : هل ثابر هابرمس في كتابة بحث اصيل في هذا المضمار ؟  ان الجواب ببساطة يمكن العثور عليه  في مصادر هابرمس ، فهي تؤكد على انه استثمر في الجانب النظري لفلسفة اللغة ، مباحث لودفيج فتكنشتاين ، واوستن وأخرين . كما فعل ذلك في كتابه ” براجماتيات التفاعل الاجتماعي ” الصادر في العام 1976 . وأود هنا ان اصحح عنوان الكتاب لان فيه ربطا بالبراجماتية ، وهذا غير صحيح ، والتصحيح للترجمة العربية ، بان عنوانه الصحيح ” براجماطيقات التفاعل الاجتماعي “.  وفي هذا الكتاب استثمرهابرمس نتائج ابحاث العالم المنطقي رودلوف كرناب ، خصوصا في بحث البراجماطيقا اللغوية . وهنا كان هابرمس صائبا في نظرته الى اللغة من زاوية وظيفتها الاجتماعية .الا انه في الوقت ذاته استبعد بعدين مهمين ، درسهما كرناب ، وهما السنتاكس والسيمانطيقا . ونفهم حقيقة لماذا استبعدهما ، وذلك لانهما لب علم المنطق الحديث ، وروح الفلسفة الالمانية الحديثة . وفي الوقت ذاته ، نلحظ ان هابرمس جانب كل ذلك ، وذهب يحرث في مجالات منطق من نوع مختلف ، ففي كتابه المعنون ” منطق العلوم الاجتماعية ” الصادر عام 1967 ترك ميدان الفلسفة وعلم المنطق وتوجه الى البحث في منطق البحث الاجتماعي ، وهو منطق مختلف عما هو متداول . فقد سعى الى صياغة نموذج ” اعادة بناء منطق التطوير ” ، ومن ثم تقديم توضيحات حول ” المعاني النظرية لمقترحات النظرية التطورية ” . وهذا بالتأكيد غير المنطق الذي طوى تاريخ الفلسفة بكل حقبه القديمة والوسطوية ، الحديثة والمعاصرة (محمد جلوب الفرحان : الاتجاهات العامة للبحث المنطقي عند رودلوف كارناب ) .

     اشتغل هابرمس في عمله الموسوم ” اتجاهات اعادة بناء المادية التاريخية ” ، على مراجعة طرف بالغ الاهمية من تفكير ماركس . وفي هذا العمل توصل هابرمس الى صياغة اختلافات اساسية مع ماركس . منها انه رأى ان تقويم ماركس لنشوء المجتمع الانساني ، فيه تبسيط شديد ، خصوصا عندما فسر ماركس هذا النشوء ، على انه نوع من التقدم الاقتصادي . اضافة الى ان هابرمس يعتقد ان حدود الفهم الماركسي ضيقة جدا ، حيث لا تترك مجالا للحرية الفردية . كما ورأى ان ماركس قد نظر الى التقدم على انه سير خطي ، وتحكمه جبرية . وجادل هابرمس الفهم الماركسي لعملية التعلم المفروضة في المادية التاريخية . وذهب مخالفا ماركس في ان ” عملية التعلم حيوية ، وغير قابلة للتكهن , وتختلف من عصر الى عصر أخر ” ( محمد جلوب الفرحان : الاتجاهات الفكرية لاعضاء مدرسة فرانكفورت ) .

    تدارس هابرمس الاطار النظري لمشروعه الساعي الى ” اعادة بناء العلوم ” . وهنا خفق قلبي وتساءلت : هل حقا بحث هابرمس في طرف من الابستمولوجيات العلمية ، وربما سأجد تقويما للابستمولوجيات الفلسفية ، خصوصا الالمانية ؟  وهو البحث المفضل عندي ، اضافة الى علم المنطق وفلسفة العلوم . ولكن الخيبة جاءت سريعة ، فالرجل ، أعني هابرمس بحث في مضمار لا علاقة بهذا المضمار الفلسفي ، وبدلا عن ذلك وجدته في مشروعه ” اعادة بناء العلوم ” ، يهدف الى وضع ” نظرية عامة للمجتمع ” مؤسسة على مقاربة بين ” الفلسفة وعلم الاجتماع ” . كما هدف الى تجسير الفجوة بين ” النظرية والعمل الميداني ” . كما عمل على ” أعادة بناء العقلانية ” ومن خلال ابنية عالم الحياة والمتمثلة في الثقافة والمجتمع والشخصية هذا طرف . ومن خلال الاستجابة الوظيفية والتي تتمثل في اعادة الانتاج الثقافي ، التكامل الاجتماعي والتنشئة الاجتماعية وهذا طرف اخر ( محمد جلوب الفرحان : الاشكال الابستمولوجي في كتابات هابرمس ) .

     ان نزعة هابرمس البراجماتية ، ظهرت واضحة ومنذ وقت مبكر ، في مشروعه في علم الاجتماع السياسي  . ولعل الشاهد على هذه النزعة ، هو منهج التجميع بين فلسفات متنوعة وتنتمي الى مدارس مختلفة ، وتجميع بين علم الاجتماع والسياسة ، وعلم النفس والثقافة ، و التصالح بين القديم والجديد , و التصالح بين فئات المجتمع الواحد ، والتصالح بين المكونات الثقافية المتنوعة ( محمد جلوب الفرحان : الخطاب الفلسفي التربوي الغربي ، بيروت 1999 الفصل السادس والذي بعنوان “البراجماتية وأثرها في التربية ) ، والتصالح بين المهزوم والمنتصر ، والتصالح بين الملحد والمتدين .  ومن ثم جاءت البراجماتية واضحة في حواره مع بابا الفاتيكان ، والذي نشر بعنوان ” جدلية العلمانية ” والذي حمل تغييرا جذريا لمواقفه الثابتة ” من الدور العام للدين ” . والذي نشر في العام 2007 .

ونلحظ ان الكثيرمن أصدقائنا العلمانيون أندهشوا لهذا التغيير في تفكير وسلوك هابرمس . ولكن في الحقيقة ليس هناك ما يدهش ، خصوصا اذا وضعنا في الاعتبار براجماتية هابرمس ، القائمة على المصالحة . وهكذا صالح بين هابرمس القديم  في القرن العشرين مع هابرمس الراهن في العقد الاول من القرن الحادي والعشرين .

هابرمس والبحث خارج حدود دوائر التفكير الفلسفي :

  في البدأ اسئلة : هل كره هابرمس الفلسفة ، خصوصا الارث الفلسفي الالماني ، الذي كان سائدا لحظة انهيار النظام السياسي النازي ؟ وهل كره هابرمس الارث الفلسفي الالماني , خصوصا فلسفات العلو و القوة والانسان الاعلى ، والذي يعتقد ان مقدماتها الفلسفية ، وجدت لها مشاعر الارتياح عند هتلر والعاملين في نظامه السياسي ، خصوصا المشرفين على الثقافة والاعلام النازيين ؟ وهل كره هابرمس الفلسفة ومباحثها التقليدية ، بعد الجدل الذي دار حول أطروحته للدكتوراه ، والتي كانت بعنوان ” المطلق والتاريخ : حول التناقض في فكر شيلينج ” ؟

  حقيقة اننا لانجد في المصادر التي عنت بسيرته الذاتية والعلمية ، شيئا ينفعنا لمعرفة مصير هذه اطروحة  ، خصوصا بعد ان ترك الدراسة ، وذهب الى جامعة اخرى ، وبدأ بدراسة موضوع لا علاقة له بالفلسفة . وكان عنوان الاطروحة الجديد ” التحولات البنيوية للاوضاع الاجتماعية : تساؤلات ضمن أصناف المجتمع البرجوازي ” . فبينما ظهرت هذه الاطروحة ، كتابا في جريدة مؤلفاته . فأن الاطروحة الفلسفية طواها النسيان ، وكأن هابرمس لا يريد ان يتذكرها او تذكره .

   على كل دلل هذا على الطلاق النهائي بين هابرمس والفلسفة .و على ان الاتي سيكون مزيجا يحتوي على الفلسفة وعلم الاجتماع وعلم النفس … وان من الملاحظ على هذا الانتقاء المفتوح ، قد قادته براجماتية هابرمس . وهذه البراجماتية الالمانية ، هي صورة من البراجماتية الام التي فتحت كل الابواب مشرعة لكل الانماط الفلسفية وعلم النفس وعلم الحياة والتربية … ، ومن ثم التجارب الدينية … كل ذلك وجد له ركنا داخل ما اسميه المعبد البراجماتي . ان مشروع هابرمس ، يجسد تجربة براجماتية المانية خاصة : فيها حضور للفلسفة على صورة اطار نظري ، وعلم الاجتماع والنفس … هي الجوانب العملية ، او ان الفلسفة هي النظرية  ( الذهن ) ، وان العلوم الاجتماعية والنفسية .. هي أرض التطبيق .

   أحسب كذلك ، وهذا هو رأي الشخصي ، ان هابرمس تيقن ان هزيمة المانيا تتضمن هزيمة الفلسفة الالمانية ( الذهنية الالمانية ) ، وان الخيار البديل هو انشاء ذهنية جديدة لا علاقة لها بالماضي الالماني ، ماضي ماقبل الحرب العالمية الثانية . اني احس بوجع هابرمس وهو يتخلى عن هويته الالمانية ، انه وجع فاوستي ذو نكهة خاصة ، تحاول فيه الذات الفاوستية الحائرة ان تتعالى على الجرح والانكسار . وذلك من خلال مشروع مصالحة براجماتية بين الفلسفة والعلوم الاجتماعية والنفسية . ان مثابرة هابرمس مسبوقة ، فماركوز تعامل مع الماركسية مثلما تعامل هابرمس مع الفلسفة الالمانية ، وهكذا جاء كتابه ” الانسان ذو البعد الواحد ” مثابرة من نوع جديد ، مثابرة لاعلاقة لها بماركسية ماقبل الهزيمة الالمانية ، أنها ماركسية ماركوز التي تحمل مشروع مصالحة طبقية .  وشأنها شأن مشروع هابرمس قائم على المصالحة التي سببتها ظروف الهزيمة وشروط الحيرة الفاوستية الجديدة الناشدة للسلام والتعايش بعد حروب مدمرة .

     حقيقة ان ماركوز تقدم على هابرمس ، فماركوز ينتمي الى الجيل الاول من مدرسة فرانكفورت  ، وهو يشارك هابرمس في مشروع المصالحة  ، بل ورسم في كتابه  الانسان ذو البعد الواحد ،الذي صدر لاول مرة في العام 1964 مثابرة متوافرة لهابرمس . ان مثابرة ماركوز نهضت على مراجعة الماركسية ، خصوصا مراجعة علم الثورة في الاطروحة الماركسية . ان ماركوز شكك في السؤال الماركسي العتيد القائل :

لماذا أصبحت الثورة ممكنة في بلدان المجتمع الصناعي ؟ جواب ماركس جاء : أنه ” بسبب وجود الطبقة العاملة ” . ان ماركوز صاغ سؤالا مختلفا ، وقدم جواب مخالفا لتنبأ ماركس . وسؤال ماركوز : لماذا اصبحت الثورة مستحيلة في بلد يمتلك للطبقة العاملة قرابة اكثر من مئة عام ؟ ان جواب ماركوز جاء :  بسبب المصالحة الطبقية ، وفي مجتمع حر تمكن من اشباع كل حاجات مواطنيه ، وثقافة موحدة وخيارات متنوعة للجميع … ان سؤال ماركوز وجوابه ، ادخلا سؤال الماركسية حول الثورة الى ذمة التاريخ . كما اسهم في شطب علم الثورة من مباحث علم الاجتماع السياسي . هذا المشروع الماركوزوي دشن مرحلة من التعايش الطبقي ، وتعايش ثقافي بين الخاسر والمنتصر ، وبالتحديد بين ثقافة المانية وبراجماتية امريكية زاحفة لتلف اوربا ومن ثم العالم بردائها . وهكذا نشط علم الاجتماع السياسي ، وليست الفلسفة ، ليقوم بهذه المهمة . ولعل ما قامت به مدرسة فرانكفورت بجيلها الاول ، ماركوز انموذجا ، وبجيلها الثاني ، هابرمس انموذجا . لتدل دلالة واضحة على ان لا مكانة للفلسفة الالمانية في هذا المشروع الجديد . كما نجد من المفيد ان نشير الى ان جميع اعضاء مدرسة فرانكفورت ليسوا فلاسفة ، وانما اشتغلوا بالفلسفة في طرف محدود في ابحاثهم في علم الاجتماع السياسي ، الذي ابدعوا فيه ، وتفردوا بنظرياتهم الاجتماعية السياسية . وخصوصا أريك فروم الذي أبدع في نظرياته النفسية ( محمد جلوب الفرحان : الاتجاهات الفكرية لاعضاء مدرسة فرانكفورت ) .

 اذن ينبغي ان يقرأ مشروع هابرمس المعرفي (وليس مشروعا فلسفيا ) في ضوء ما حدث لالمانيا بعد خسارتها في الحرب العالمية الثانية ، والشروط التي فرضتها قوات التحالف المنتصرة ، والدمار الواقع في البنى التحتية للحياة اليومية للمواطن الالماني العادي الذي انخرط في المعارك ، ولعل هابرمس واحدا من المقاتلين في الجيش الالماني ، الذين اكتوا بنيران الحرب وشربوا كأس الهزيمة المر.

     واحسب ان هابرمس على اساس الواقع الالماني الجديد ، فكر بمشروع مصالحة سياسي اولا بين المانيا ودول التحالف المنتصرة ، ومن ثم مشروع تصالح بين الثقافة الالمانية الجديدة والثقافة الامريكية متمثلة بالثقافة البراجماتية . وهكذا اختار هابرمس خط التلفيق الانتقائي الذي اختاره اطارا فلسفيا للمزيج الفكري الذي يتألف من اشياء من علم الاجتماع ، واشياء من علم النفس ، واشياء اخرى من الثقافة ، وتدوير سياسي لكل ذلك في مشروع مصالحة ، يمكن ان نطلق عليه مشروع هابرمس الفكري للمصالحة بين الشعوب المتطلعة للعيش بسلام .

   انه خيار صعب جاء بعد يقظة سياسية عاشها هابرمس ، خصوصا حين استرجع لحظات الحرب والنتائج الكارثية للهزيمة الالمانية . وقد وصف هابرمس لحظة يقظته السياسية ، والتي حدثت بعد محاكمات تورنبرك ومن ثم عرض الفيلم الوثائقي الذي كشف عن طبيعة التعذيب الوحشي في معسكرات الاعتقال النازية . قال هابرمس  : ” كلنا شهود احياء على النظام السياسي الاجرامي ” . انها لحظة الرعب والفزع التي طبعت تفكيره على العموم ، وقادته الى صياغة مشروع اجتماعي  سياسي للمصالحة بين الشعوب ، وذلك حسب ما يعتقد هابرمس ” ان نظل حذرين ضد تكرار حدوث مثل هذا السلوك السياسي الاجرامي مرة ثانية ” .

    ان هذا الخيار تعزز بعد ان تيقن هابرمس ، من انه لا جديد في دوائر الفكر الفلسفي السائد ، ولسان حاله يقول انها فلسفة مهدت للهزيمة وذلك لانها فشلت في ترويض النظام النازي وتوجيهه نحو شواطئ البناء والنمو ، بدلا من شواطئ الحرب والدمار ومن ثم الكوارث الانسانية . وكذلك تيقن هابرمس من انه لا جديد في الفكر الفلسفي الراهن ، وخصوصا في حال مدرسة فرانكفورت ، حين حدث جدل حول اطروحته للدكتوراه ” التاريخ والمطلق :حول التناقض في فكر شيلينج ” ، والتي تركها ، ومن ثم تحول الى جامعة اخرى ، وقدم اطروحة جديدة ، تدل على هزيمته مع فلسفة شيلينج خصوصا والفلسفة الالمانية عموما .و كان عنوان الاطروحة الجديدة ” التحولات البنيوية للاوضاع الاجتماعية : تساؤلات ضمن اصناف المجتمع البرجوازي ” .  هذه هي نقطة التحول ، وهي التي رسمت المسار الجديد لهابرمس ، الذي قاده بعيدا عن جادة الفلسفة الالمانية التقليدية . 

    وهكذا كان قدرا جديدا لمشروع هابرمس الفكري , وهو ان يتحول من شواطئ الفلسفة الالمانية العتيدة ، ويركب امواج بحرمتمموج ، ليس كل ما فيه صيد فلسفي ، وانما مزيج متنوع من فلسفة وعلم اجتماع وعلم نفس ، ثقافة وعلم سياسة …و كان هذا الحال يطبع مجمل انتاج هابرمس الفكري .

واحسب مرة اخرى ان اكرر الى ان هزيمة المانيا لعبت دورا في هزيمة الفلسفة على يد هابرمس   وهي حالة متفردة في تاريخ الفلسفة الالمانية ، وفي تاريخ الفلسفة على العموم .  وأحسب على هذا الاساس ان حال هابرمس ، هو حال من يريد ان يقول : أنا برئ من النظام النازي الذي سبب الكارثة الالمانية اولا والانسانية ثانيا . وانا برئ من الاتجاهات الفلسفية التي ساهمت او مهدت للنظام من صياغة منظوره الشوفيني لا انساني . وانا برئ من الاتجاهات الفلسفية التي فضلت الصمت ، ولم تعمل شيئا على اقناع النظام من تغيير سياساته العدوانية ضد معارضيه من الشعب الالماني ، ووقف سياساته الشوفينية ضد الشعوب الاخرى .

    احسب هذا حق ومطلب مشروع ، ولكن اذا فعل هابرمس ذلك للفلسفة بهذه الحجة ، فهو ظلم وخطيئة بحق الفلسفة وتاريخها العتيد . واذا كان من الحق ان نقول ان جوانب من فلسفات العلو والقوة ، والتطبيقات الفلسفية للدراونية الاجتماعية ، قد وجدت لها حضورا لحظة صياغة ايديولوجيا نظام الاشتراكية الوطنية ، وكذلك وجدت بعض الاتجاهات الفلسفية لها نشاطا فترة النظام النازي ، فأن هذه الفلسفات ليست مسؤولة عن جرائم النظام ، كما و ان الفلاسفة لم ينخرطوا في منظمات هتلر والقتال في جبهات القتال ، مثلما حدث في حالة هابرمس . واحسب ان في الحرب حالتين : قاتل ومقتول . وهابرمس خرج من الحرب سليما . ولكن السؤال الذي لم يسأل من قبل أحد : كم كان عدد قتلاك في الحرب التي شاركت فيها ؟ سؤال لايجرأ أحد على رفعه بوجه فيلسوف الجمهورية الالمانية الجديدة .

       كان من حق هابرمس ان ينقد ويشجب من يشاء ، وله الحرية في هجر الفلسفة واختيار علم الاجتماع السياسي . ولكن من حقنا كذلك ان نؤشر حالات الظلم التي امتدت الى الفلسفة الالمانية من الفعل الثقافي الذي قاده هابرمس ( خذ مثلا حالة الفيلسوف مارتن هيدجر ) ، وذلك من خلال برامج الجمهورية الالمانية الجديدة ، والذي سبب سحبا لفعل الفلسفة الى الوراء ، وتقديم فعل علم الاجتماع السياسي . وكان الحاصل من فعل الجمهورية الالمانية الجديدة الكاره لفلاسفة ماقبل الحرب ، ان ماتوا ولم يحتفل بهم احدا ، خذ مثلا فيلسوف التاريخ الالماني الفذ ” أسوالد أشبنجلر ” والذي تعد رائعته ” سقوط الغرب ” ثورة في فلسفة التاريخ في الربع الاول من القرن العشرين . فقد اهملته الجمهورية الالمانية الجديدة ، لا لشئ سوى انه كان مراسلا حربيا أثناء الحرب . وبالتأكيد هو لم يكن مقاتلا كما هو الحال في حالة هابرمس . أنه ظلم بحق لطرف مهم من اطراف الثقافة الالمانية . وهذا اشكال كبير في مشروع فيلسوف الجمهورية الالمانية الجديدة , فقد تسامح مع انتمائه لمنظمة شباب هتلر ، وتسامح مع مشاركته في القتال في الحدود الغربية . ولكنه لم يتسامح مع الفيلسوف هيدجر الذي لم يشارك في القتال ، ولكن جرمه الوحيد انه مدح حزب الاشتراكية الوطنية ، وانتمى الى حزب الاشتراكية الوطنية . واود ان اشير هنا الى الفارق بين فعليين : واحد عرفناه صدر من فيلسوف الجمهورية الالمانية الجديدة ، الساعي الى التصالح مع قوات التحالف التي دمرت المانيا ، ولكنه لا يتسامح مع هيدجر . والثاني صدرمن أحدى ضحايا النظام النازي ، وهو الشاعر اليهودي بول كلين ، الناجي من معسكرات التعذيب النازية ، والذي جسد فعلا مدنيا راق في التسامح ، فقد التقى بهيدجر ، ومن ثم قبل دعوة هيدجر بزيارته في بيته , وتحدثا طويلا ، وكان كل مايتطلع اليه ، هو الاعتذار . ولكنه لم يحصل على هذا الاعتذار من هيدجر ( محمد جلوب الفرحان : مارتن هيدجر ومحنة الفلسفة الالمانية ) .

   ان هذا المقال هو دعوة فيلسوف جادة لتحرير هابرمس من خوفه من الفلسفة الالمانية  التي ظلمت كثيرا. فمثلا وجدنا ان البعض يربط  بين فلسفة ” نيتشه ” وفكرة ” السوبرمان ” والنظام النازي . وهذه دعاية صادرة من اعلام الحرب ، والتي دفعت الجمهورية الالمانية الجديدة ، الى تأهيل فلسفة نيتشه لتكون مقبولة ، وهكذا ارتبكت الحكومة الالمانية جريمة ثقافية فلسفية بحق النصوص الابداعية النيتشوية ، فحذفت ما اعتقده مسؤلي الثقافة الالمانية الجديدة لا يتماشى وتوجهات التصالح مع الثقافة الامريكية البراجماتية ، وبمباركة من فيلسوف الجمهورية الالمانية الجديدة ( محمد جلوب الفرحان : مارتن هيدجر ومحنة الفلسفة الالمانية ) . 

واذكر القارئ بان هذا الظلم شمل كذلك اجمل فن من فنون الابداع الالماني ،والذي تعاملت معه الجمهورية الالمانية الجديدة مثلما تعاملت مع الفلسفة الالمانية . فقد ربطت دوائر اعلام الحرب الكارهة للموسيقى الالمانية ، ربطت موسيقى فاغنر بالنظام النازي ، وذلك بحجة ان هتلر كان يستمع الى موسيقاه . وهكذا اخذ الجمهور يتردد خوفا من الاستماع اليه  ، كي لا يكونوا موضع شك بكونهم نازيون . واليوم تحررنا من هذا الربط الظالم بين فاغنر و هتلر ، وعدنا نستمتع بسماع موسيقاه ، ولا احد يشعر بخوف او حرج في توليد ألم لاحفاد ضحايا النازية .

 وأحسب كذلك ان في أطروحات هابرمس ضميمة خوف من النظام النازي ، وما أرتبط به او عايشه من فلاسفة ، كان قدرهم ان ينشطوا في هذا الزمن التعيس … ونقول لهابرمس حان الاوان ان تتحرمن خوفك ، وان نحرر القارئ من خوف هابرمس ، ومن ثم العودة الى الفلسفة الالمانية ، وخصوصا فلسفات : نيتشه ومارتن هيدجر وأسوالد أشبنجلر ، والقائمة طويلة نستمتع بقراءتها ، مثلما عدنا دون خوف نستمتع بالاستماع الى موسيقى فاغنر .  

 تعقيب ختامي واعد : مكانة هابرمس في الفلسفة المعاصرة :

    لا أعرف أن احدا كتب مقالا فلسفيا متخصصا ، قيم فيه التجديدات الفلسفية التي انجزها هابرمس في ميادين : الانطولوجيا ، الابستمولوجيا والاكسيولوجيا ، تقويما فلسفيا خالصا .  ولم يظهر ، حسب معرفتي  مقالا واحدا ، على الاقل في اللغة الانكليزية  يناقش فيه مكانة هابرمس في تاريخ علم المنطق ، وكيف يقيم هابرمس التجديدات المنطقية التي انجزها المناطقة الالمان في العصر الحديث ، على الاقل ، بدأ بلايبنتز وفريجه ، ورودلوف كارناب …. وكذلك لم اقرأ مقالا واحدا ، يقيم فيه مكانة هابرمس في تاريخ فلسفات العلوم او تاريخ الفلسفة على وجه العموم .

   واذا ذهبت مع القارئ الى كتابات هابرمس ، وذلك سعيا الى  معرفة المتخفي من ارث فلسفي مطمور تحت العمارة الفكرية التي بناها ، وهي عمارة فكرية اجتماعية نفسية سياسية ، ولكنها بالطبع ليست عمارة فلسفية .  فاني اجده  قد انطلق من ارضية فلسفية  ، وهويشيد بناء عمارته الفكرية او الادق عمارته الثقافية . وهذا شئ مختلف عما  اذا كانت عمارة فلسفية ذات اسس وطوابق ، بنى ومنهج  …

   ولاحظت ان الاشكالية التي يعاني منها هابرمس وفكره في علم الاجتماع السياسي ، قد امتد الى الدراسات التي عنت بدائرة تفكيره . فمثلا وجدت كتابا اثناء بحثي عن مراجع لكتابة مقال عن ” مكانة هابرمس في الفلسفة المعاصرة ” بعنوان ” فلسفة هابرمس ” ، ومؤلفه هو الاستاذ أندرو أيدجر ، وفد نشر باللغة الانكليزية في العام 2005 ويتألف من 292 صفحة . وفرحت كثيرا . وتيقنت ان هذا الكتاب سيعينني في كتابة هذا المقال .

    ولكن تبدد الامل ، حين رحت أقرا الكتاب وأقلب صفحاته . فوجدت الكتاب يفحص النصوص الاساسية التي كتبها هابرمس ، وتحت عنوان فلسفة هابرمس . ولعل الفصل اليتيم الذي فيه مادة عامة نافعة هو الفصل الاول  ، وبعنوان ” الارث الماركسي ” ص ص 26 – 1 .  اما الكتاب ففيه كل شئ ما عدا الفلسفة . ان هذا الكتاب يضيف اشكالا أخرا الى قائمة الاشكالات الفلسفية التي لفت نصوص عالم الاجتماعي السياسي هابرمس . أنه فخ سقط فيه هذا المرجع عندما استخدم اصطلاح الفلسفة خارج حدود ه الاكاديمية والمهنية .

   نعود الى  كتابات واعمال هابرمس ، وذلك لمعرفة المتخفي من ارث فلسفي . و أول امر نقوم به ، هو ان نحاول ان ندقق بما تسميه الدراسات ” بالنظرية  ” ، والتي تؤكد على ان هابرمس قد بنى “اطارا شاملا للنظرية الاجتماعية ورسم الفلسفة من خلال عدد من التقاليد الثقافية ” . وسأحاول التركيز على الفلاسفة الذين أحتفل بهم هابرمس او الذين نشعر بان لهم اثارا على نصوصه ، وذلك من خلال عناوين كتبه والموضوعات التي اشتغل عليها  . ونحسب ان مكانة هابرمس في الفلسفة المعاصرة ، ستكون موضع اهتمامنا في مقال قادم والذي سيتناول الجوانب الاتية  :

أولا – حضور الفكر الفلسفي الالماني في مشروع هابرمس الاجتماعي السياسي .

وبالتحديد بيان أثر عمانؤيل كانط ، فردريك شيلينج ، هيجل  وأدموند هوسرل .

ثانيا – حضور الاطروحة الماركسية في مشروع هابرمس الثقافي .

خصوصا ( نظرية ماركس نفسه ) بالاضافة  الى النظرية الماركسية الجديدة النقدية لمدرسة فرانكفورت .

ثالثا – حضور الفلسفة اللغوية عند هابرمس : لودفيج فتنشتاين أنموذجا

رابعا – حضور البراجماتية الامريكية : تشارلز ساندز بيرس ، وجون ديوي

خامسا – حضور الكانتية الجديدة

سادسا – حضور الوجودية  : مارتن هيدجرأنموذجا

سابعا – رودلوف كارناب و” براجماطيقات التفاعل الاجتماعي  

——————————————————————————————-           

هذا المنشور نشر في Dr.MOHAMAD FARHAN, Erich Fromm, Frankfurt School, Freud, Hegel, Herbert Marcuse, Jurgen Habermas, Kant, Lukacs, Marx, Max Horkheimer, Rudolf Carnap, Theodor Adorno, Walter Benjamin, Weber, الفكر الفلسفي الألماني المعاصر, الفيلسوف الدكتور محمد جلوب الفرحان وكلماته الدلالية , , , , . حفظ الرابط الثابت.