كتابات وموسيقى المتصوفة الفيلسوفة الألمانية هيلدجارد بنجن : من زاوية فلسفية – فمنستية

الفلسفة : حُب الحكمة     الفيلسوف : مُحب الحكمة

والفيلسوف هو الذي رهن جُل حياته في البحث عن الحكمة

——————————————————————————————

(96)

آب 2012

——————————————————————————————

الفيلسوف 

مجلة فلسفية إلكترونية

——————————————————————————————-

Hildegard of Bingen’s Writings

From Philosophical and Feminist Perspective

Dr. MOHAMAD FARHAN    Dr. NIDAA KHALIL  

كتابات المتصوفة – الفيلسوفة الألمانية هيلدجارد بنجن

من زاوية فلسفية – فمنستية*

الدكتور محمد جلوب الفرحان   الدكتورة نداء إبراهيم خليل

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

* نُشرت في مجلة أوراق فلسفية جديدة / المجلد الرابع / العدد السابع ، صيف 2012

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

تقديم :

   يرى الباحثون الغربيون الإنكليز (وما تُرجم إلى لغتهم الإنكليزية من كتابات لاتينية) ، إلى إن هيلدجارد وأعمالها بمجملها ، تُقدمها شخصية متنوعة الإهتمامات ، فهي قديسة ، ونبية الراين ، وكاتبة فيما يمكن الإصطلاح عليه باللاهوت الفمنستي ، ومؤلفة موسيقية (فقد كتبت مسرحية بعنوان الفضائل ووضعت الموسيقى لها ، وكتبت سمفونية تألفت من أكثر من سبعين أغنية) ، وهي فيلسوفة ، وصوفية مسيحية ، ورئيسة دير ، وفيلسوفة لغة أسهمت في إختراع لغة جديدة للراهبات ، وطبيبة أعشاب عارفة بأساليب العلاج والمحافظة على الصحة ، وشاعرة كتبت العديد من القصائد في الحب والعدل الإلهيين (للتفاصيل أنظر : سبينا فلانكن ؛ أسرار الله : كتابات هيلدجارد بنجن ، بوسطن 1996 ، ص 119 ، وكذلك أنظر : باملا شينكورن ؛ عالم المرأة أو نظام الفضائل عند هيلدجارد بنجن : دراسات نقدية ، مطبوعات معد العصور الوسطى ، مشيكان 1992 ، ص 52) .   

  هذا البحث هو الأول من نوعه في دائرة ثقافتنا العربية ، يتناول حياة وكتابات المتصوفة الألمانية هيلدجارد بنجن (1098 – 1179م) . والتي كانت برأينا نداً قوياً لشخصية المتصوفة العربية رابعة العدوية (717 – 801)، والتي تقدمت بتجربتها الصوفية على تجربة الألمانية هيلدجارد بأكثر من ثلاثة قرون ونصف . والحقيقة ليس لدينا دليل مباشر أو غير مباشر يثبت على معرفة المتصوفة الألمانية هيلدجارد بأخبار المتصوفة العربية رابعة العدوية . 

   ولكن في الوقت ذاته تتوافر لدينا الحقائق الآتية :

أولاً – إن المتصوفة هيلدجارد ولدت خلال الحملة الصليبية الأولى (1095 – 1099) ، وترعرت ونضجت خلال أجواء الغرب العدائية ، وتحريض الجمهور المؤمن البسيط على الإنخراط في القتال وطرد المسلمين من الأراضي المقدسة . وفعلاً ففي الأربعينيات من عمر هيلدجارد ، لعب برنارد كليرفوكس (1090 – 1153) (وهو ناصح هيلدجارد ووقف مع كتاباتها وعمل على قبولها من قبل البابا رغم ما فيها من هرطقة من زاوية رجال اللاهوت في عصرها) . نقول إن برنارد هذا ، كان الموجه الديني للحملة الصليبية الثانية (1146 – 1147) والتي فشلت فشلاً ، وإنتهت إلى كارثة عام 1149 . كما ومن المعلوم إن معظم كتاب عصر هيلدجارد قد ساندوا أهداف الحرب الصليبية . 

ثانياً – إن الإمبراطور الروماني المقدس فردريك بربروسا (وهو ألماني ومساند للمتصوفة هيلدجارد قد قاد عساكره في الحملة الصليبية الثالثة 1189 وهو تاريخ متأخر وذلك لأن المتصوفة هيلدجارد قد توفيت قبل ذلك بعشرة سنوات) . إلا إن المهم هو إنها عاشت في أجواء الحروب الصليبية . فمثلاً الحملة الأولى (1096 – 1099) كانت هيلدجارد طفلة يومها ، ومن ثم الحملة الصليبية الثانية (1145 – 1149) وخلالها كانت هيلدجارد في مرحلة نضوجها وبالتحديد في نهايات العقد الخامس (للتفاصيل عن الحروب الصليبية من وجهة نظر غربية أنظر : جونثان سميث رايلي : الحروب الصليبية : تاريخ موجز ، نشرة دار الفردوس الجديدة / جامعة ييل 2005) . ومن النافع أن نذكر بأن القديس أنسلم الكنتربري (1033 – 1109)، وهو الحكيم الوحيد الذي عارض الحروب الصليبية ، وإعتبرها نوعاً من المغامرة (للتفاصيل أنظر : سالي فوكن ؛ القديس أنسلم الكنتربري : الفيلسوف – القديس والسياسي / مجلة تاريخ العصور الوسطى / العدد الأول 1975 ، ص ص 279 – 306) .

   لقد كانت الحروب الصليبية قنوات إتصال حضاري (رغم مآسيها العسكرية) بين الغرب اللاتيني المسيحي والشرق العربي الإسلامي ، ونحسب من خلال ذلك جاءت الأخبار الكثيرة عن حضارة المسلمين ، ونظن إنها حملت في جنباتها أخباراً عن المتصوفة العربية رابعة العدوية ، وخصوصاً إذا ما عرفنا إن واحداً من كبار مستشاري صلاح الدين الأيوبي (الرمز العسكري الكبير المقاوم للصليبين) ، هو السهرودي الذي كان من رجال الصوفية (والذي قتله بوتر إبن صلاح الدين الأيوبي بتهمة الشطح والكفر وبدفع من الفقهاء ، رغم تدخل صلاح الدين بنفسه في وقف تنفيذ الحكم .. لكن مات المتصوف شهيداً مقتولاً) . وبالتأكيد إن دائرة ثقافة الصليبين كانت عارفة بالتفصيل عن حياة صلاح الدين ومستشاريه ومن ضمنهم السهروردي (للتفاصيل أنظر : محمد جلوب الفرحان ؛ البحث المنطقي عند السهروردي / مجلة الباحث ، بيروت – لبنان 1987) .

   كما إن رابعة قد تشربت العقيدي الإسلامي ، وتمثلته تجربة صوفية خالصة . في حين إن هيلدجارد من طرفها قد تشربت العقيدي المسيحي حتى الثمالة ، وحولته تجربة صوفية متفردة . ونحسب من المفيد القول بأن كلا التجربتين الصوفيتين ، كانا موضوع تساؤل وتنديد  . فمثلاً ندد الإصوليون الإسلاميون بتجربة رابعة وإتهموها بالشطح (وهو إصطلاح فيه نوعاً من المقاربة من إصطلاح الهرطقة (أسست رابعة العدوية في تاريخ التصوف الإسلامي ، مذهباً صوفياً أُصطلح عليه بمذهب العشق الإلهي وكتبت شعر الحب الإلهي وغنته على إيقاع موسيقي ، أنظر للتفاصيل : ماركريت سميث : رابعة وأتباعها من القديسين في الإسلام / مجموعة مكتبة جامعة كيمبريدج 1928) . وكذلك لوح رجال اللاهوت المسيحي الأرثذوكسي بتهمة الهرطقة فيما يتعلق بتجربة هيلدجارد . وفي مذهبنا إن هيلدجارد هي رابعة العدوية التي ولدت بعد ثلاثة قرون ونصف بثياب ألمانية ، وتتكلم اللاتينية وتتغنى شعراً لاتينياً بحب الله (وولده الإله – المسيح) .

     يعود إهتمامنا بالمتصوفة هليدجارد إلى ثلاثة دوافع :

 الأول –  إنها كانت رمزاً روحياً (صوفياً) كبيراً  معاصراً للفيلسوف الفرنسي بيتر إبيلارد وحبيبته إلويزا (أنظر : الدكتور محمد جلوب الفرحان والدكتورة نداء إبراهيم خليل ؛ الفيلسوفة لويزا أرجنتيل والفيلسوف بيتر أبيلارد / مجلة أوراق فلسفية جديدة / العدد الخامس شتاء 2012) ، وفي الوقت نفسه كانت معاصرة لفيلسوف قرطبة الكبير إبن رشد (1126 – 1198م) . صحيح إنها لم تقابله ولم يقابلها ، إلا إنها عاشت في فترة كان فيها فيلسوف قرطبة وخصوصاً كتابه الطبي الكليات ، عنواناً كبيراً في مضمار الطب والدواء الذي كتبت فيه هيلدجارد واحداً من أهم كتبها بعنوان الفيزيكا (أي في الصحة والعلاج) . ونظن إن شيوع إبن رشد وكتابه الكليات في أسبانيا القرن الثاني عشر ربما قد وصلت أخباره إلى دائرة مسامعها .

الثاني – إنها كانت صوتاً نسوياً (فمنستياً) قوياً في القرن الثاني عشر الميلادي ، ودار الجدل بين رجال اللاهوت المسيحي حول الهرطقة في تجربتها الروحية الصوفية ، وخصوصاً في حديثها عن مقابلة الحضرة الإلهية . ولكن إهتمام البابا يوجين الثالث بتجربتها الروحية وكتاباتها عنها ، كان له دوراً في إسكات كل هذه الأصوات ، وبذلك لم تتمكن من إصدار الحظر وتحريم كتاباتها . في حين الأصوات ذاتها هي التي وقفت بوجه الفيلسوف الفرنسي إبيلارد ، وإتهمته بالهرطقة وحرمت تعاليمه .

الثالث – نتطلع إلى توفير قراءة فلسفية – فمنستية لتراثها الكوسمولوجي ، والعلمي الطبي . كما ومن المعلوم إن السياسة منذ جمهورية إفلاطون وكتاب السياسة لتلميذه أرسطو ، كانت موضوعاً فلسفياً ، فسنحاول تقديم قراءة لمضمون رسائلها السياسية . وحال الموسيقى حال السياسة ، فهي درس فلسفي خالص منذ فيثاغوراس ومدرسته الفلسفية . وهنا سنُقدم قراءة لمجهودها الموسيقى بصورة عامة ، وأغانيها وتراتيلها الدينية المتعلقة بالحب الإلهي (وهو موضوع هيمن على الكتابات الصوفية الممزوجة بأنظار فلسفية تتردد عند عتبات وحدة الوجود) على وجه الخصوص .

    ومن باب الأهمية التاريخية والفلسفية للمتصوفة هيلدجارد ، وهي إنها ولدت قبل وفاة فيلسوف قرطبة العربي إبن رشد (1126 – 1198م) بقرن من الزمن ، ولكنها كانت معاصرة له فقد توفيت وعمر فيلسوف قرطبة بحدود الثالثة والخمسين (فقد كان في قمة نضوجه العلمي والفلسفي ، ونعرف بأن مؤلفاته الطبية قد ترجمت أولاً إلى العبرية واللاتينية لغة هيلدجارد) ، فكلاهما عاشا وكتبا روائعهم الفكرية في القرن الثاني عشر الميلادي . صحيح من الناحية المكانية ، إن المسافات بين ألمانيا والأندلس (أسبانيا) كانت لا تعمل لصالح توفير فرصة (خصوصاً للمتصوفة هليدجارد) للتعرف على كتابات فيلسوفنا الكبير إبن رشد . ولكن من الناحية الزمانية إن الغرب المسيحي ، وبالتحديد في ألمانيا المتصوفة هيلدجارد ، كانا مشغولين بصورة تلفت النظر بما يجري في الأندلس ، وخصوصاً في المواجهات المسيحية للوجود العربي الإسلامي (وهناك دعوات في الغرب وقريبة من القرار البابوي ، تشجع على مد الحروب الصليبية إلى الأندلس . وفعلاً فإنه في ربيع عام 1147 صدر قرار بابوي يدعو إلى توسيع الحروب الصليبية لتشمل الأندلس الإسلامية (أنظر للتفاصيل : سميث رايلي ، مصدر سابق ، ص 48)) ، وهي مواجهات كان الغالب فيها عسكري يتطلع إلى طرد العرب من أسبانيا ، والثاني عقيدي يتمثل في إنتزاع أسبانيا من السيطرة العربية الإسلامية ، وإعادتها إلى الحضرة المسيحية .

   وبالرغم من هيمنة هذين الطرفين ، فقد بدأت مع تباشير القرن الثاني عشر حركة ترجمة غربية حثيثة لنقل التراث العلمي العربي  ، وخصوصاً الفكر الفلكي والطبي ، المجلوب من الشرق العربي الإسلامي عامة إلى العبرية أولاً ومن ثم إلى اللاتينية ثانياً (للتفاصيل عن هذا الجانب ، أنظر : محمد جلوب الفرحان ؛ إبن رشد ورصيد الحركة الرشدية العبرية واللاتينية ، المحور المعنون حركة الترجمة للتراث العلمي العربي في القرن الثاني عشر / مجلة أوراق فلسفية جديدة / العدد الخامس شتاء 2012) . وهو المضمار الذي كتبت فيه هيلدجارد واحداً من أهم مؤلفاتها ، وهو كتاب الفيزيكا .

  صحيح إن الفيلسوفة الألمانية روزويث كاندرشيم  (935 – 1002) قد ولدت قبل ولادة المتصوفة الألمانية هيلدجارد بأكثر من قرن ونصف من السنين (وبالتحديد ولدت قبلها بمئة وثلاث وستين سنة) . وقد توفيت قبلها بحدود القرنيين من الزمن (وبالتحديد توفيت قبلها بمئة وست وتسعين سنة) . فإن دائرة تفكير الفيلسوفة روزويث قد وردت فيها تفاصيل عما يجري في الأندلس العربية ، وبالطبع من زاوية مسيحية . وقد وثقت الروايات الواصلة إليها في عدد من مسرحياتها ، وبالتحديد شخصيات الشهداء والشهيدات المسيحيات الذين لاقوا حتفهم على يد العرب المسلمين على حد روايتها (أنظر : محمد جلوب الفرحان والدكتورة نداء إبراهيم خليل ؛ الفيلسوفة الألمانية روزويث كاندرشيم / مجلة أوراق فلسفية جديدة ، العدد السادس ، ربيع 2012) .

   وعلى أساس هذا الحوار السلبي بين الغرب المسيحي والشرق العربي المسلم ، فإننا نتوقع إن إمور الحوار قد تصاعدت درجات حرارتها الدموية على صعيد المواجهتين العسكرية والعقيدية . ولذلك نتوقع من المتصوفة هيلدجارد ، إن تكون هي الأخرى قد عالجت الحوار المسيحي العربي الإسلامي من زاويتها الصوفية المسيحية ، وقدمت لنا شواهد عنها بقلمها ، شواهد حفظتها نصوصها الكتابية عامة ، وأغانيها وترانيمها الدينية . على كل هذا إفتراض نتطلع إلى بيان مصداقيته من خلال نصوص وموسيقى ، وأغاني المتصوفة هيلدجارد .  

قراءة في السيرة الذاتية للمتصوفة هيلدجارد

  ونحسب في البداية الإشارة إلى إن هناك جدلاً بين الباحثين يدور حول تاريخ ولادة المتصوفة – الفيلسوفة الألمانية هيلدجارد فون بنجن . وفعلاً فقد عمل الباحثون بجد للمقارنة والإستنتاج وتوصلوا إلى إنها (ربما) ولدت عام 1098 (أنظر : فيونا ميدوكس ؛ هيلدجارد بنجن : المرأة وعصرها ، نشرة دار دبولدي ، نيويورك 2001 ، ص 317) . ونرى إن هذا التاريخ ستواجهه تحديات كبيرة ، خصوصاً من داخل كتاب مذكرات حياة هيلدجارد .

 على كل إنها ولدت في  بيرمارشيم ، وترعرت في أحضان عائلة أرستقراطية تنتمي إلى طبقة النبلاء المتنورين . وهذا الأمر جداً مهم في نمو شخصيتها ، وكيف أنها ستكون صوتاً نسوياً قوياً بين رجال الدين المهيمنين يومذاك على حياة وإدارة المؤسسات الدينية ، ومن ثم الكتابات الدينية ، وتفسير النصوص الدينية ضمن مضمار اللاهوت المسيحي . إن حالة المتصوفة هيلدجارد وكتاباتها ستعمق خطاً دشنته قبلها الفيلسوفة الألمانية روزويث كاندرشيم ، ومن ثم ستتلقفه صديقتها إليزابيث ساشونو (1129 – 1165) وستكتب كتاباً فيه متابعة واضحة لتجربة هيلدجارد وكتابها معرفة الطرق إلى الرب ، فقد كان عنوان كتاب إليزابيث طرق الله (أنظر : آن كلارك ؛ كاهنات مريم العذراء : مشكلة الجندر في القرن الثاني عشر / مجلة دراسات فمنستية في الدين / المجلد 18 ، العدد الأول ربيع 2002). وهذا المضمار سيكون حقلاً جديداً ، في الأمكان أن نصطلح عليه بدائرة اللاهوت المسيحي الفمنستي (النسوي) .

   صحيح إن هناك لمز وغمز متخفي كان يجري حول تجربتها الروحية تحت باب الهرطقة . ولكن لم تحدث مواجهة بينها وبين رجال اللاهوت والسلطة الدينية ، وبتقديرنا إن ذلك يعود لسببين :

 الأول إنها تنتمي إلى عائلة إرستقراطية نبيلة لها سلطة ومكانة عالية في المجتمع المحلي والمناطقي الألمانيين .

والثاني إن تجربتها الروحية تدور في مضمار الدين المسيحي ومنطلقاته اللاهوتية ، ورؤية الله – المسيح . صحيح فيها خوارق قد لا يرتاح لها رجال اللاهوت . إلا إنهم عطلوا المواجهة بينهم وبينها ، وحولوها إلى البابا ، لتكون مواجهة مع رمز ديني مسيحي كبير . إلا إن الذي حدث ، هو إن البابا طلب منها إن تستمر في تجربتها ، وتشاركه في الجديد منها . وبهذا الخيار خسر خصومها المعركة ، وإنتصرت عليهم بقرار من أعلى السلطات الدينية ، فيه إعتراف بها رمزاً روحياً متميزاً .   

  لقد كانت الطفلة هيلدجارد العاشرة في الترتيب بين إخوتها وأخواتها ، وولدت  ضعيفة مريضة (أنظر : فيونا ميدوكس ؛ المصدر السابق ، ص 17) . وفي مذكرات حياتها ، شرحت هيلدجارد ذلك ، وأشارت إلى إنها من عمر صغير جداً ، بدأت تعيش حالة مشاهدات ورؤى (وحسب حالة هيلدجارد تتضمن وحي ونبؤة وإلهام (ومن زاوية علماء النفس أحلام اليقضة) ، وبالإصطلاحات الصوفية الكشف والإتصال والرؤيا ، مثلاً في المسيحية رؤية الله – المسيح أو العذراء)(أنظر : روزمري رادفورد ريثر ؛ المرأة الرؤيوية ، ميني بولس 2002 ، ص 7) .  

   وربما بسبب حالتها الرؤيوية المبكرة جداً ، كانت الدافع وراء إقدام والديها (كل من هيلدبرت وميشثيلد) إلى تقديمها أوبليت (نذرُ أو هدية) إلى الكنيسة (أنظر : بربارا نيومان ؛ صوت الضوء الحي ، نشرة مطبعة جامعة كليفورنيا 1998 ، ص 53) . وهو تقليد مسيحي لقبول الإطفال في أديرة الكنيسة ، ولكن ليس كراهبة ، وذلك لكونها في الثامنة من عمرها ، وشروط الرهبنة ، هو أن تكون في سن الثامنة عشر ، فهي مرحلة تمهيد وإعداد ، ومن ثم الدخول في الرهبنة أو العودة إلى الحياة الإعتيادية (للتفاصيل أنظر : شارلز هريمان (الإشراف) ؛ الإنسكلوبيديا الكاثوليكية ، نشرة شركة روبرت إبليتون ، نيويورك 1913 / مادة أوبليت) . وبالحرف الواحد تشرح الإنسكلوبيديا الكاثوليكية كلمة أوبليت :

  تستعمل الكلمة لوصف الشخص الذي ليس راهباً أو راهبة ، وإنما هو وصف للأشخاص الذين نُذروا لله وخدمته .. وهم أحرار عندما يصلوا سن البلوغ بالبقاء بالدير أو تركه والعودة إلى الحياة الإعتيادية (المصدر السابق) .

  وتخبرُنا المتصوفة هيلدجارد في مذكرات حياتها ، بأنها كانت تحت رعاية راهبة كبيرة السن إسمُها جوتا ، وكان عمرها ثمانية سنوات . ولما كان تاريخ علاقتها بالراهبة جوتا معروف وثابت لدى الباحثين ، وهو 1112 م (أنظر : فيونا ميدوكس ؛ المصدر السابق) . ولهذا نحسب إن هناك مشكلة تتحدى تاريخ ولادتها ، وهو إننا إذا قبلنا تاريخ ولادتها على إنه كان عام 1098 ، فإنها دخلت الدير وأصبحت بصحبة الراهبة جوتا في عمر الرابعة عشر وهذا مايتناقض وتاريخ الولادة الذي إقترحه الباحثون ، وليس كما قالت المتصوفة بمذكرات حياتها ، إنها كانت بنت ثمانية عاماً .

  ونحن نعتقد بقوة وسلطة مذكرات حياة المتصوفة هيلدجارد ، وعلى هذا الأساس فإن الحل الوحيد ، هو قبول عمرها ثمانية سنوات عندما أصبحت بعناية الراهبة جوتا ، وتغيير سنة ولادتها من عام 1089 إلى عام 1104 . وهذا ما يتناغم ومذكرات حياتها وصحبتها للراهبة جوتا . وبذلك فإن المتصوفة هيلدجارد كانت بنت في بدايات قرن جديد هو القرن الثاني عشر (عصر إبن رشد في أسبانيا) ، وليست بنت القرن الحادي عشر . وهذا له أهمية كبيرة على تفكيرها العلمي والطبي . ففي هذا القرن بدأت حركة ترجمة واسعة في الغرب العبري واللاتيني للتراث العربي العلمي المجلوب من المشرق إلى الأندلس ، والمتوافر في مكتبات المدن الكبيرة مثل قرطبة وأشبيليا (أنظر : محمد جلوب الفرحان : إبن رشد والرشدية : أخطاء تاريخية وكبوة المنهج الإنتخابي / المحور المعنون ترجمة القرن الثاني عشر / مجلة أوراق فلسفية جديدة / العدد الخامس شتاء 2012) .

  ومعلمة هيلدجارد جوتا ، هي الكونتيسة جوتا فون سبونهيم (1091 – 1136) وهي بنت الكونت ستيفن سبونهيم ، وكانت جوتا الأصغر سناً من بين أربعة نساء نبيلات فيما يُعرف بدولة الراين – بلاتين . وفي وقت مبكر كرست نفسها إلى الله ، فسجنت نفسها في كوخ يتكون من غرفة صغيرة ، لاتخرج إلى العالم ، وتستلم من نافذة صغيرة الطعام فقط .، وكانت مجاورة لدير القديس دايسبيرك ، ومن ثم أصبحت رئيسة دير القديس دايسبود  وحتى وفاتها عام 1136 . وقامت بتعليم العديد من الطالبات من إصول نبيلة ، واللائي عشن معها في الدير . وكانت من أشهرهن المتصوفة هيلدجارد . ويبدو إن أثار دروس المعلمة جوتا قد ظهر لها صدى في توجهات هيلدجارد ، وخصوصاً في الترانيم الدينية والإيقاع الموسيقي ، فقد كانت جوتا وهيلدجارد يقضيان الليل في قراءة مقاطع خاصة من الإنجيل ، وينشدان ترانيم بعنوان عمل الله . وعلمت جوتا هيلدجار العزف على ألة موسيقية ، هي القيثارة وكان أخوها مينهارد سبونهيم من أكبر المتبرعين مالياً لدير القديس روبرتسبيرك في خمسينات القرن الثاني عشر (أنظر : أن سيلفيستس ؛ جوتا وهيلدجارد : مصادر السير الذاتية ، نشرة مطبعة جامعة ولاية بنسلفانيا 1998) .

   صحيح إن الراهبة جوتا كانت غير مثقفة ، إلا إن أهميتها إنها علمت هيلدجارد في الدير على القراءة والكتابة (وبالطبع القراءة والكتابة باللاتينية) . وهكذا بدأت مع معلمتها جوتا ، يقضيان يومهما في قراءة ، وكتابة الإنجيل باللاتينية (أنظر : هيلدجارد بنجن : الأعمال اللاهوتية ، ترجمة كولومبيا هارت وجين بشوب ، وكتبت بربارا نيومان له مدخلاً ، وكتبت المقدمة كرلوين ولكر بينام ، نشرة مطبعة بوليست ، نيويورك 1990 ، ص 11) .

  ومن معلمي هيلدجارد الراهب فالمير (توفي عام 1173) ، وهو راهب من دير القديس دايسبود ، وكان أباً ومستمعاً لإعترافات الراهبات في الدير . وهو المعلم الثاني للمتصوفة هيلدجارد (بعد جوتا) ، خصوصاً في سني حياتها الأولى . وبعد إن صمتت هيلدجارد طويلاً على تجربتها النبوية ، إعترفت بها إلى جوتا ، وجوتا من طرفها أخبرت فالمر . وفالمر من جانبه ساند هيلدجارد في تجربتها . وكان الناصح لها في فترة من الزمن ، وعندما هاجمتها الشكوك ، ألح عليها أن تتبع أوامر الله ، وتبدأ الكتابة عن تجربتها النبوية ، ومن ثم أصبح لاحقاً سكرتيرها الخاص وصديقها الحميم . وإمتدت معرفتهما لأكثر من ستين عاماً . وعندما توفي في عام 1173 ، حزنت عليه حزناً شديداً . وفالمر كان القارئ والمصحح لكتاباتها . وقد أشارت إليه  في كتابها المعنون الأعمال الإلهية ، حيث قالت : بينما كنت أعمل في هذا الكتاب ، كان فالمر يشجعني ويساعدني ، وهو راهب مخلص لقواعد القديس بنديكت ، وقد حزنت بشدة لموته ، وكان إنساناً سعيداً ، وساعدني في طرق مختلفة ، وخدم الله وذلك من خلال إستماعه لكلمات الله في هذه التجربة النبوية ، وصححها ورتبها في نظام ، وكان المُحرك الدائم لي ، وحذرني من التوقف من الكتابة (هيلدجارد بنجن ؛ كتاب الأعمال الإلهية ) .    

  ولم يتوافر لنا شئ عن حياتها حتى عام 1136 ، وهي السنة التي تُوفيت فيها جوتا وإن هيلدجارد أنتخبت لتكون رئيس الدير بديلاً عنها . والحقيقة إن الباحثة كارول ريد قد دققت في كل السجلات التاريخية ، وذهبت إلى إنه لا يتوافر سجل مكتوب للفترة الأولى من حياة هيلدجارد ، وخصوصاً للفترة الممتدة من الطفولة وحتى بلوغها الرابعة والعشرين من عمرها . ولكن هناك إشارات إلى إنها كانت مع معلمتها الراهبة جوتا . وهناك إحتمال إلى إنها كانت تشارك في الأناشيد الدينية ، وتعمل في الحقل لجمع عروق النباتات الجافة ، وتقوم بخزنها لأغراض العلاج والمحافظة على الصحة (أنظر : كارول جونز ريد ؛ هيلدجارد بنجن : أمرأة الوحي ، نشرة دار أوراق كارن ، واشنطن 2004 ، ص 8) .

  وبعد خمس سنوات جاءتها دعوة النبوة ، والتي قادتها إلى تأليف كتاب معرفة الطريق المؤدي إلى الرب ، فشاع أمرها رمزاً روحياً بين عامة الناس . وإعتماداً على ما جاء من مذكراتها ، فإن تجربتها الروحية كانت صوفية المنحى ، فهي ترى أشياء ، لا يستطيع رؤيتها الناس المحيطون بها ، كما إنها تتكلم عن أشياء ستقع في المستقبل ، ومن ثم إنتهت إلى الحديث عن ” رؤية الضوء الحي ” .

    لقد تنوعت أحاديثها عن الضوء الحي ، فقد رأته أو ظهر لها بأشكال وصور مختلفة ، بدأت بأشكال إنسانية ، وإتسعت لتتخذ موديلات معمارية ، والتي كانت قادرة على تفسيرها بمساعدة ما أسمته ” صوت من السماء أو الجنة ” . وفي النهاية ، وفي بعض المناسبة القليلة ، أصبحت على إتصال بما أسمته ” بالنور أو الإشعاع العظيم ” ، والذي أطلقت عليه إصطلاح الضوء الحي .

 ونحسب من النافع إن نُخبر القارئ هنا بأن هناك جدلاً دار حول هرطقتها المتعارضة مع العقيدي المسيحي المتداول يومذاك ، والذي يتعلق بالوصف الذي كتبته المتصوفة هيلدجارد لتجربتها الروحية (نبوتها) يوم كان عمرها سبع وسبعين عاماً . ففي هذا الوصف إفترضت مقابلة مع الحضرة الإلهية . وفعلاً ظلت كاتمة على سرها ولم تتقوى للحديث عنها لأي إنسان ، ولكنها في الأخير إطمأنت من حقيقتها فأباحت بها لمعلمتها جوتا وللراهب فولمر معلمها ، وفيما بعد سكرتيرها وصديقها الحميم (اأنظر : هيلدرجارد بنجن ؛ الأعمال اللاهوتية (مصدر سابق)) .

   وعلى الرغم من تناول بعض الدراسات لتجربتها الروحية وعلاقتها بالحالة المرضية التي عاشتها لفترة طويلة ، والتي تمثلت كما قال الباحث شارلز سنكر ، وكما أكدها لاحقاً أولفر ساكس ، من إنها شكل من المايكرين (صداع الشقيقة) (أنظر شارلز سنكر ؛ المواقف العلمية ورؤيا القديسة هيلدجارد / منشور في كتاب تاريخ وطريقة العلم ، أكسفورد 1917 ، ص ص 1 وما بعد ، وأنظر كذلك : أولفر ساكس : المايكرين : محاولة فهم للإضطراب الشائع ، براكلي 1985 ، ص  ص 106 – 108) ، فإنها عاشت حياتها بنشاط مُلفت للنظر ، كتبت فيها العديد من الأعمال الإحتفالية ، ومسرحية وأغاني وموسيقى إحتفالية ، وعمرت طويلاً حتى ناهزت الثمانين عاماً .    

البحث في مؤلفات ونصوص وموسيقى المتصوفة هيلدجارد  

  بدأت المتصوفة الرؤيوية هيلدجارد بنجن الكتابة في عمر متأخر إلى حد ما ، وبالتحديد عندما ناهزت الثالثة والأربعين ربيعاً ، وواجهتها صعوبات جمة في الكتابة ، ولكنها إستشارت عدد من المبرزين من الكتاب في عصرها ، من أمثال رجل الكنيسة الكبير الفرنسي برنارد كليرفوكس*. وفعلاً فقد أرسلت المتصوفة هيلدجارد رسالة

ـــــــــــــــــــــــــــ

ولد في بوركندي ، وأصبح برنارد كليرفوكس من المشاهير بعد إن إرتبط إسمه بدير سسترين الذي أسسه في عام 1115 وظل رئيساً للدير حتى وفاته عام 1153 . والسسترين هو نظام ديني كاثوليكي روماني للرهبان والراهبات ، ويُعرف بعض الأحيان بنظام الرهبان البيض . وبرنارد كان واحداً من أشهر السسترينس في عصره ، وكتب العديد من الأعمال منها رسائل ، وخطب ومواعظ دينية وكتابات ساخرة ، وكان زاهداً متقشفاً في بداية حياته . إلا إنه أصبح أكثر إهتماماً بالسياسة خصوصاً بعد عام 1128 حين تدخل في النزاعات بين رموز مهمة في الكنيسة . ولعل من مواقفه سيئة الصيت ضد الفلسفة والفلاسفة ، إنه في عام 1140 مارس تأثيرة بأستصدار قرارات الشجب لتعاليم الفيلسوف بيتر إبيلارد . كما وإن مواقفه سيئة الصيت قيامه بعد إنتخاب البابا يوجينوس الثالث بجولات ضد الهرطقة . ومنها مواقفه التي شجعت الحملة الصليبية الثانية ، فقد عمل داعية لها (من 1146 وإلى 1147) والتي فشلت فشلاً ذريعاً في العام 1149 . وهو الذي لعب دوراً في قبول كتابات هيلدجارد في المؤتمر الديني للفترة من 1147 – 1148 (أنظر : كلاين إيفنس ؛ برنارد كليرفوكس (مفكرون وسطويون كبار) ، نشرة مطبعة جامعة أكسفورد 2000)

ـــــــــــــــــــــــــــ

إليه ، شرحت فيها أسباب مخاطبته ، فقالت : ” بالرغم من تواضع درجات تعليمي ، فإني أزعم بأنني أمتلك وجهات نظر لاهوتية عالية ، ولي منهج خاص في تفسير الإنجيل ، ومن ثم أشارت إلى تجربتها في تأليف الأغاني ووضع الموسيقى لها ، والتي كانت تقدم في الكنيسة … وهي تتطلع للتدريب في اللغة والخطابة ، لتكون مثل برنارد كليرفوكس ، الذي لم ترى وتسمع على الإطلاق مثله أحد من قبل ” . ويبدو  واضحاً في الطلب الرسالة إطراء لشخصية برنارد ، فيها الكثير من التضخيم والمبالغة (هيلدجارد بنجن : كتابات مختارة ، ترجمة مارك أثيرتون / المدخل الذي كتبه مارك ، ص 9).

  المهم إن رد فعل برنارد كان قصيراً وإيجابياً ، وفيه نوع من الدهشة لعدد من المتشككيين في التجربة الصوفية لهيلدجارد ، خصوصاً بعد إن جاء من رجل كنيسة في القرن الثاني عشر ، وهي الفترة التي ترى في كل جديد وغريب ، نوعاً من الهرطقة (كفر وبدع) . هذا من طرف ، ومن طرف أخر إن حال برنارد حال مختلف ، فهو لم يكن على الإطلاق رجلاً لبرالياً (متحرراً) في هذه الموضوعات . فهو الذي حافظ على الحظر المفروض على تعاليم الفيلسوف الباريسي بيتر إبيلارد ، ونصيره أرنولد برشيا . وفي هذه الأجواء من الحظر والإدانة جاءت رسالة المتصوفة هيلدجارد .

  ومن المعلوم إن الهرطقة واحدة ، وإن ما حدث للفيلسوف بيتر إبيلارد ، كاد أن يتكرر في حالة المتصوفة هيلدجارد . ولكن الذي حدث إن برنارد تعامل مع هرطقة هيلدجارد بميزان مختلف عن ميزان إبيلارد . والسؤال : لماذا حدث ذلك ؟ وما هي الأسباب التي حملت برنارد إن يتصرف مع هرطقة هيلدجارد بمنطق مختلف عن هرطقة إبيلارد ؟ الجواب هو نفاق رجال الدين في كل مكان . وهذا فعلاً ما حدث مع برنارد . فقد أبلغنا برنارد بأن قضيتها العقيدية المرتبطة بتجربتها الروحية التي وصفتها في كتاب معرفة الطرق إلى الرب ، هي في حالة تمحيص ، وبرأينا إنه نفق تخفى ورائه برنارد ليجامل البابا على حساب اللاهوت المسيحي الأرثوذوكسي ، فقد كان برنارد عارفاً بأن البابا يوجينوس الثالث (كان بابا للفترة 1145 – 1153) وأخرون من رجال اللاهوت قد قرأوا مقاطع من الجزء الثاني . ولهذا تحدث برنارد لصالحها ، وحصلت الموافقة البابوية على طبع كتاب هيلدجارد المعنون معرفة الطرق إلى الله . وبعد بضع سنوات تحولت هليدجارد إلى مستشار وناصح ديني وأخلاقي وسياسي لنصف أوربا . ولأول مرة في تاريخ العصور الوسطى ، تقوم إمرأة بجولات أربع عبر الإمبراطورية الألمانية لإلقاء المحاضرات . فبدأت محاضراتها في العام 1158 وكان عمرها ستين عاماً (أنظر : هيلدجارد بنجن ؛ كتابات مختارة / المدخل ، ص 10 – 11) .      

 كتبت هيلدجارد العديد من المؤلفات والنصوص ، ومسرحية وترانيم ، وسير ذاتية ، وموسيقى . وجاءت بالصورة الآتية :

أولاً – معرفة الطرق إلى الرب  ، وهو كتاب كبير ، يتألف من مجلدين ، وتتجاوز صفحاته الخمسمائة صفحة في ترجمته من اللاتينية إلى الإنكليزية ، وهوكتاب لاهوتي مختلف عن الكتب اللاهوتية المتداولة ، ففيه شرح للمشاهدات التي تعرضت إليها في تجربتها الرؤيوية النبوية . وتحول في العصور الوسطى إلى كتاب إحتفالي . ولعل السبب يعود إلى دعم البابا يوجينوس الثالث له ولكاتبته ، ومن ثم طبع لاحقاً في باريس في العام 1513 .  

ثانياً – كتاب حياة الفضائل

ثالثاً – كتاب الأعمال الإلهية

رابعاً – كتاب الفيزيكا (في الصحة والعلاج) ، وهو كتاب موسوعي يتألف من تسعة كتب .

خامساً – سيرة القديس دايسبود

سادساً – سيرة القديس روبرت

سابعاً – سمفونية تناغم الإلهامات السماوية ، وهو كتاب ضم أعمالاً موسيقية لأكثر من سبعين أغنية . ومسرحية موسيقية ، هي مسرحية الفضائل .

ثامناً – رسائل هيلدجارد بنجن ، وهو عمل ضخم تألف من 400 رسالة تبادلتها مع سياسيين ورجال دولة ، ورجال دين ، من أمثال البابوات ، وعدد من الإمبراطورات ورؤساء أديرة ، ورئيسات أديرة (أنظر : جين فرنيت ؛ المراسلات / منشور في كتاب : صوت الضور الحي : هيلدجارد بنجن وعالمها / إشراف بربارة نيومان ، نشرة مطبعة كليفورنيا ، براكلي 1998 ، ص ص 91 – 109) .  

نضال هيلدجارد من أجل الأستقلال الفمنستي

  تكشفُ كتابات المتصوفة هيلدجارد ، وإنجازاتها الإبداعية الأُخرى عن نضالها المتنوع ، وعلى مُختلف الصُعد ، من أجل الإستقلال الفمنستي ، وفك الإرتباط من هيمنة غير عادلة لرجال الدين ، خصوصاً في شؤون المرأة عامة ، ومضمار الحياة اليومية للراهبات ، وأديرة الراهبات . ولعل الشاهد على نضالها ، أعمالها الأتية :

أولاً – أغانيها المُهداة إلى القديس دايسبود

  تشعر من خلال قراءة الأغاني التي أهدتها إلى القديس دايسبود ( وهو رئيس أساقفة  وزاهد من إصول إيرلندية ، عاش في القرن السابع الميلادي ، وهو المؤسس للدير الذي يحمل إسمه ، والذي بناه على سفح تل) ، وفي هذا الدير صرفت المتصوفة نصف عمرها . والمهم إن المتصوفة هيلدجارد في سعيها إلى الإستقلال بذاتها ولبنات جلدها من الراهبات ، تطلعت إلى إعتراف المجتمع المحلي بها وبمجموعة الراهبات العاملات معها . وفعلاً تحولن (وخصوصاً هيلدجارد) إلى مثال وقدوة للأخريات (والأخرين) ومصدر إلهام . وهذا يعود إلى إن المتصوفة هيلدجارد وبناتها من الراهبات ، كن بنظر المجتمع المحلي عامة والديني خاصة ، رمزاً للعلو والشموخ ، حالهن حال الدير المتعالي فوق قمة تل دايسبودنبيرك .

  وهنا أقدم شهادة العلو والشموخ في مقاطع من شعر أغانيها المهداة إلى القديس دايسبود ، رمز الإستقلال والزهد ، والرافض لكل مغريات الحياة (مغريات العبودية والخضوع والفساد التي كانت شائعة في ديار الدين والعباد) . حيث قالت :

آه يا إعجوبة العجائب

المتخفي من الشروق

إنهض بقامتك المجيدة

حيث العلو والشموخ

وإكشف عن أسرار الحقيقة

آه دايسبود ! سوف تُبعث في النهاية

وعندما تنهض مرة

فإن كل أشجار العالم ستُزهر من جديد (هيلدجارد بنجن ؛ كتابات مختارة ، ترجمة  (مع مدخل وملاحظات) مارك إيثرتن ، نشرة دار بنكوين ، لندن 2001 ، ص ص 35 – 36) .   

ثانياً – رسالة إلى هارتوك بريمان

  هذه الرسالة جداً مهمة ، فهي تختلف عن أغانيها المهداة إلى القديس دايسبود ، فالأغاني كانت منلوج الإستقلال بين المتصوفة والقديس دايسبود الذي غادر هذا العالم على الأقل ثلاثة قرون مضت يوم كتبتها هيلدجارد . أما هذه الرسالة ، فهي خطاب بين الأحياء ، بين هيلدجارد ورئيس الأساقفة القوي وصاحب السلطة هارتوك بريمان (أصبح رئيساً للأساقفة عام 1148) . وهو قريب معلمتها جوتا ، ولعب دوراً مساعداً عندما قررت هيلدجارد والرهبات العشرين معها ، الإستقلال والإنتقال إلى دير مستقل وهو دير روبرتسبيرك ، وذلك لأن الدير السابق فيه قسم للرهبان ، وقسم للراهبات ، ومن خلال قسم الرهبان ، كانت تُمرر قرارات الرجل على حساب شروط النساء .

   ومن الملاحظ إن هيلدجارد قد كتبت هذه الرسالة بعد صعود وتنامي سلطات رئيس الأساقفة بريمان شمالاً وشمال شرق ألمانيا . تقول المتصوفة هيلدجارد في رسالتها : تصور بأن شخص ما قابلك لأول مرة ، فأنه سيهبك بصره لترى خلاله ، وسيمنحك أجنحة كل الكائنات لتحلق بها . تصور الواحد الذي خلق البشر لتعكس حقيقة كل معجزاته ، ولذلك فإن معرفة الله ستشع عليهم . وكما كُتب : فأنت الألهة كُلها ، وأنت الوحيد من بين أبناء الألهة المتعالي . وربما الله يتطلع إليك ، أن تُنجز إرادته . إن الله يتطلع إليك أن تطارد الشر الذي يقف معارضاً لإرادة الله ، والشر من يومه الأول فاقد لإرادة الخير..

 ومرة ثانية ، تصور : أنا المرأة المسكينة ، دائماً تتطلع إليك ، حقاً إنك ضوء للخلاص ( المصدر السابق ، ص ص 37 38) .   

ثالثاً – أغنية إلى القديسة يورسلا

   إستثمرت المتصوفة هيلدجارد مناسبة إستشهاد القديسة يورسلا وصحبها في العصور المظلمة في كولونا على يد الهانز ، لتثور غاضبة على جريمة قتل بنات جنسها ، ولتصرخ أغاني تمجيد وتشريف لهن . والحقيقة كتبت أغنيتين لأحياء ذكرى شهادة المرأة القديسة يورسلا ، وكانت الأغنيتين نشيد تمجيد فمنستي لهما في أجواء كنسية مهابة . ويبدو إن هناك حس من التوحد بين المتصوفة هيلدجارد والقديسة الشهيدة يورسلا ، خصوصاً بين اللحظتين ، لحظة شهادة يورسلا ، ولحظة هجر هيلدجارد للدير القديم ، وإنتقالها مع الراهبات العشرين إلى دير الإستقلال الجديد . وإليكم مقاطع من أغنيتها إلى القديسة يورسلا :

في الإيمان الحق

يورسلا تحب إبن الله

ولحبه هجرت زوجها والحياة الدنيوية

وتطلعت إلى الشمس

وتطلعت إلى الشباب الأبدي وقالت :

أنا متشوقة وراغبة للمجئ إليك في الجنة

وأجلس بقُربك

بعد أن أسرع راكضةً بطريق الحج إليك مثل الغيوم

تتسابق مع الهواء الزاحف مثل الزفير

وبعد ما حكت يورسلا

إنتشرت بين الناس إشاعات تقول : إنها مجرد بنت بريئة

لا تعرف ماذا تقول ؟

فسخروا منها ، وأخذوا يتغنون بأغانيهم القديمة

حتى تهافت الجن عليها ، فإعترف الناس بمقامها الرافض

للعالم مثل جبل شامخ (المصدر السابق ، ص ص 39 – 40) .

رابعا – محاولات النفس

   وفيها كشف عن مثابراتها الروحية ، وجهودها المضنية في الكتابة ، واللتان أثمرتا في إنتزاع الإعتراف بها كقائدة روحية وكاتبة مبدعة (أنظر ؛ المصدر السابق ، ص ص41 – 46) .

خامساً – أغاني إلى القديس روبرت

  ترتبط هيلدجارد والقديس روبرت بعلاقة روحية عميقة ، فهو رمز للإستقلال الذي تطلعت إليه المتصوفة هيلدجارد ، فالدير الذي يحمل إسمه ، كان هو الدير الذي أحتضن هيلدجارد بعد إن قررت هجر الدير السابق ، وبدأ حياتها مع جماعتها من الراهبات في دير روبرتسبيرك (أنظر المصدر السابق ، ص ص 47 – 50) . ولذلك خصته بمجموعة أغاني تمجده ، وتحتفل مع الراهبات بذكراه . 

سادساً ً- رحيل ريتشاردز ستيد

   كانت المتصوفة هيلدجارد شجاعة ، لا تترد في نقد الخطأ داخل الكنيسة أو في الحياة العامة . وهي مدركة للإدوار التي تلعبها القوى الإرستقراطية في التعيين والترقيات الدينية ، وعارفة إن ذلك فساد وخطيئة تتعارض وجوهر الدين المسيحي . ولذلك إعترضت على تعيين ريتشاردز ستيد رئيسة دير في باسيم ، لكون أخيها رئيس أساقفة ، وكانت ستيد راهبة ضمن جماعة المتصوفة هيلدجارد ، وبدورها أرسلت رسالة الإعتراض على التعيين . حيث قالت فيها : من الأمانة القول بصدق لا ريب فيه : إن هذه الفبركة القانونية ، ولدت سلطة لهذه البنت لا قيمة لها أمام الله . أما أنا ، فإنني الأعلى والأكثر عمقاً من بين أعضاء الدائرة ، وكوني الضوء الساطع  … وإن روح الله تقول بحماسة : أيها الرعاة ، إبكوا ونوحوا على هذه الأزمان .. (المصدر السابق ، ص 51) . 

سابعاً – الرؤية الأولى لمسرحية الفضائل

   في الحقيقة هذه المحاورة ، هي مسرحية أخلاقية رائدة في العصور الوسطى ، وهي بنظر الباحثين أول عمل مسرحي يتناول الأخلاق في أدب العصور الوسطى . والمسرحية فيها كفاح النفس ضد ظاهرة التجسد ، ونضالها من أجل التحرر من دائرة الخداع (أنظر ؛ المصدر السابق ، ص 53 وما بعد) .

   إضافة إلى كتاباتها ، فالحقائق التاريخية تؤكد إلى إنها أنجزت الكثير في طريق الإستقلال . وفعلاً فإن هيلدجارد كانت تفكر ليل نهار في ترك مجتمع الرجال من الرهبان ، وإنشاء دير خاص بها ورفيقاتها من الراهبات . صحيح إن الخطة واجهت معارضة من رئيس الدير ، وإمتعاض من بعض الراهبات اللائي أحببن الدير لفترة طويلة . إلا إن رغبة هيلدجارد هي الإستقلال من النواحي القانونية والمالية وحتى الروحية من دير الرهبان . كما إن من المعلوم إن هناك نزاع دائم بين هيلدجارد ورئيس دير القديس دايسبود (أنظر : هيلدجارد ؛ معرفة الطرق إلى الله / المدخل ، ص 13) .

  ولأنجاز الرحيل وبناء مجتمع ودير الراهبات المستقل ، وظفت ثلاثة عناصر عملت لتحقيق رغبتها : الأول مكانة عائلتها الإرستقراطية ، وعن طريقها حصلت على الأرض التي ستبني عليها مجتمع الراهبات وديرها الجديد . الثاني حالتها المرضية والتي وفرت التعاطف لها من الأهل والجميع لصالح غرضها النبيل . والثالث عنصر روحي ، فقد أقنعت رئيس دير دايسبود بأنها رغبة الله ، وطلبه في مغادرة مجتمع الرهبان وبناء مجتمع الراهبات . ولما رفض ذهبت إلى درجات روحية عالية ، فحصلت لها الموافقة بالرحيل . وهكذا نجحت في الإنتقال إلى دير روبرتسبيرك (المصدر السابق) .

  وعملت خلال البدايات الأولى من النصف الثاني من القرن الثاني عشر إلى تأمين كل جوانب إزدهار ديرها ، فأسست برامج تدريب للدير ، وبرامج تعليم وتثقيف ديني ، وكانت هي المشرفة بنفسها على بناء الأقسام الجديدة من الدير . وكان الناتج الكثير من الهبات المالية التي أمنت الوضع المالي المستقل لديرها . وبدأت نضالاً جديداً من أجل إستصدار وثيقة الإستقلال لديرها من دير دايسبود وذلك لبناء مجتمع القديس روبرت . ومن نشاطاتها في طريق الإستقلال وبناء مجتمع روبرت ، كتبت مؤلفها المشهور حياة القديس روبرت . وكتبت العديد من الأغاني التي لعبت دوراً روحياً في إنعاش حياة الراهبات . كما إنها إخترعت لغة خاصة سرية للراهبات ، تجمعهن وتوحد هدفهن الفمنستي الروحي (المصدر السابق) .     

هيلدجارد : نبية الراين

    يعتقد معاصرو المتصوفة هيلدجارد بأنها كانت نبية تتلقى الوحي ، ولذلك أطلقوا عليها لقب نبية الراين . وفعلاً فقد جاءت دعوة النبوة في العام 1141 ، على صورة ضوء ناري ملأ كُل قلبها وعقلها ، ومنحها معرفة كلية بالكتب المقدسة (هيلدجارد بنجن ؛ معرفة الطرق إلى الرب (مصدر سابق) / المدخل ، ص 12) . وفي مقدمة كتابها ” معرفة الطرق إلى الله ” وصفت تجربة النبوة ، بأنها إشعاع أو نور . وكانت منتبهة بعناية عالية من عمرها لحظة النبوة ، وتاريخها ، وأسماء الشخصيات التي كانت في قمة الهرم السياسي والروحي يومذاك (مثل الإمبراطور الذي كان في الحكم ، ورئيس أساقفة ماينز ، ورئيس دير القديس دايسبود) . وهذا التمحيص التاريخي فيه متابعة لتاريخ أنبياء العبرية ، الذي سار عليه النبي جون باتموس (أو يوحنا البطمسي ، وهو الشخص الذي إرتبط بإسمه كتاب النبوة أو الوحي . وعلى أساس كتاب الوحي فإنه كان يعيش في جزيرة بتومس اليونانية ، كمنفى له بسبب معارضته لإضطهاد المسيحيين . أنظر : بيرت إيهارم ؛ مدخل تاريخي للكتابات المسيحية الأولى ، نيويورك 2004 ، ص 468) .

 وإستناداً إلى تجربة النبوة تطلع الكثيرون من معاصريها على الحصول على نصيحة منها في كل إمور الحياة ، بما في ذلك الصعوبات المادية ، والمشاكل الصحية وحتى السؤال عن مصير إرواحهم . وغالباً ما كانت هيلدجارد تعرض نصيحتها للشخصيات المساندة لها ، من أمثال الإمبراطور فردريك الأول (1122 – 1190) . وبالمناسبة إن هيلدجارد قد وبخته لتدخله في الصراع على كرسي البابوية (أنظر : هيلدجارد بنجن : معرفة الطرق إلى الرب / المدخل ، ص 9)* 

ـــــــــــــــــــــــــــــ

 وهو  الإمبراطور الروماني المقدس فردريك بربروسا / ويرتبط إسمه بالحروب الصليبية حاله حال عمه الأمبراطور الذي ورثه في الحكم (ويبدو لي إن الكثير من المعلومات عن الشرق الإسلامي قد وصلت إلى مسامع المتصوفة هيلدجارد قد جاءت من خلال العساكر الألمانية التي شاركت في الحروب الصليبية) للتفاصيل عن الإمبراطور فردريك ومن ثم دوره في الحروب الصليبية ، أنظر : بيتر مينز : فردريك بربروسا : دراسة في سياسات العصور الوسطى ، نشرة مطبعة جامعة كورنيل ، لندن 1969 .

ــــــــــــــــــــــــــــ

صحيح إن كتابها اللاهوتي الموسوعي المتفرد ، المعنون معرفة الطرق إلى الرب ، قد حمل تفاصيل تجربتها الإلهامية ذات الطبيعة النبوية . ولكن من الصحيح جداً أن هناك نصوصاَ أخرى كتبتها المتصوفة هيلدجارد ، قد ناقشت فيها أطرافاً من الشواهد على نبوتها . وهذه النصوص هي :

أولاً – ثلاثة رسائل سياسية

  بعد إن أسست المتصوفة هيلدجارد نفسها بقوة في ديرها الجديد ” دير القديس روبرتسبيرك  ” ، بدأت تحقق نجاحات وسمعة عالية ، وذلك لكونها نبية وحكيمة سياسية ، وصاحبة نظرة لاهوتية خاصة ، وكل هذا الجوانب لعبت دوراً في حصولها على لقب ” نبية الراين ” .

  تميزت رسائلها السياسية بالنقد والتوجيه والنصيحة . وهنا نستشهد بثلاث رسائل ، بعثتها لشخصيات لعبت دوراً حيوياً ومؤثراً في حياة العباد والمؤسسة الدينية :

   1 – رسالة هيلدجارد إلى البابا يوجينوس الثالث (وهو بابا للفترة 1145 – 1153)  ، وفيها نغمة مختلفة عن نغمة رسائلها المبكرة . وفعلاً فإن لغتها تحمل تكهناً نبوياً بوقوع دراما في القريب العاجل ، وتحذيراً من الخوف من الله وقدر عدالته الإلهية ، مع صور مجازية للدب كإشارة إلى الملك الألماني الجديد فردريك بربروسا ، الذي وقع معاهدة سياسية مع البابا يوجينوس في عام 1153 (أنظر : هيلدجارد بنجن ؛ كتابات مختارة ، ص 65) .  وإليك ترجمة لبعض من مقاطع هذه الرسالة السياسية . تقول هيلدجارد :

هو الذي لم يصمت أبداً

وتكلم بسبب الضعف المنتشر بين العباد

والذي حولهم إلى ” فاقدي البصر ” فلم يبصروا حقيقة ما حولهم

وجعلهم صم ، فلم يسمعوا ما يُحبك ويدور

وحولهم إلى بكم (خرسان) عاجزون عن الكلام

واللصوص يتربصون ، وينتظرون بأسلحة الموت

وهو يقول السيوف وزعت ، ونحن بإنتظار لحظة قتل أشرار العقول

الجوهرة موجودة في الطريق ، ولكن الدب جاء من بعيد

وأخذها ووضعها في صدره . وفجأة ظهر الصقر ، فإنتزع الجوهرة

وذهب بها إلى قصر الملك .

والملك بدوره كافأ الصقر بأحذية من ذهب

وأنت الجالس على عرش الكنيسة

خير لك أن تختار : أما أن تكون صقراً وتغلب الدب 

أو بأحذيتك الذهبية ربما تصعد عالياً

ولكنك عاجز عن إسكات أصوات المتطفلين (المصدر السابق ، ص 66) .

2 – رسالة هيلدجارد إلى هنري رئيس أساقفة ليج (للفترة 1145 – 1164) ، وهي شبيهة برسالتها إلى البابا ، وتحمل مجازات دالة على سوء الطالع القريب ، فهي تتحدث عن غيوم سوداء تهدد جبل الأزهار والورود ، والهواء النسيم ، ومن المعلوم إن رئيس الأساقفة هنري كان مناصراً للإمبراطور فردريك . وهنا يكمن بمنظار هيلدجارد خطر هنري على كنيسة الله ، وكان هنري من المصاحبين للإمبراطور في حملته الحربية على إيطاليا عام 1154 ، والذي حضر حفلة تتويج  فرديرك الأول أمبراطوراً من قبل البابا هدراين الرابع (بابا للفترة 1154 – 1159) (للتفاصيل عن حياة البابا هدراين الرابع أنظر : برندا بولتن و آن دوكن : البابا الإنكليزي هدارين الرابع : دراسات ونصوص ، دار نشر إشاكت 2003) .

 وهنا نقدم ترجمة لرسالتها السياسية ، التي بعثتها إلى رئيس الأساقفة هنري :

يقول الضوء الحي : الكتب المقدسة تقود دائماً إلى الجبل العالي

حيث هناك تنمو الزهور والأعشاب التي توفر العافية

ورياح النسيم ذات الروائح العبقة

وهناك حيث ورود الجوري والزنبق يكشفان عن سرهما ويشيحان عن جمالهما الآخذ …

ولكن الآن أيها الرعاة ، جاء زمن الحداد والعويل ، بسبب إن الجبل في عصرنا غطته غيوم سوداء ، فتوقف النسيم العليل ، وماتت رائحته العبقة . وأنت هنري ، راعي جيد ، ومن إصول نبيلة ، حدق عالياً مثل الصقر إلى الشمس ، وأدعو الجميع ، وأجعل الضوء يشع من جديد على الجبل. وأنت حي تسمع صوت الحاكم الحبيب في العُلى  يقول لك : ” إنك عملت حسناً ، وإنك عبد مخلص وخير ” . وفي هذه اللحظة ، فإن روحك ستشع بضوء مثل الجندي الذكي في ساحة القتال ، يبتهج مع رفاقه لحظة الإنتصار .. صحح الذين زلهم الخطأ ، ومسح التراب الذي غطى اللؤلؤ الجميل .. وأدعو اللؤلؤ الجميل إلى الجبل ، حيث أصول هبات الله . ربما الله يحفظك الآن ، ويحرر روحك من العذاب الأزلي (هيلدجارد بنجن ؛ كتابات مختارة ، ص 67) .

3 – رسالة من هيلدجارد إلى الباب هدراين الرابع ، وهذه الرسالة حملت تنبؤات غير سارة . بعد رسالة البابا في عام في إكتوبر عام 1157 ، والتي إعتبرها فردريك تهديداً لسلطته الأمبراطورية . وفعلاً فإن الرسالة توقعت أحداث مؤلمة . تقول هيلدجارد :

الواحد الذي منح الحياة للعباد يقول : ” أيها الإنسان ، حافظ على حالة الخوف مثل الأسود ، وأبقى قوياً مثل اللبوات ، وسوف تختبر تحطم السفينة ، إذا ما أخذت الغنائم . وأبقى الملاذ الوحيد لكل العباد ، رغم حالة التعب والإجهاد ، ولا تهتم  وكن مستعداً على الدوام في فهم الحال ، وكن شفوقاً على نفسك من سوء سلوك الرجال … وإن الله سوف يكون بعونك ، وسترى من خلال نوره (المصدر السابق ، ص ص 67 – 689) .             

ثانياً – أغاني مُهداة إلى الكنيسة ، وهي أغاني مناصرة للكنائس في روما بعد الإعتداء الذي تعرض له واحداً من رجال الدين (كاردينال) ، وقرر البابا هدراين الرابع غلق الكنائس . وقد كتبتها كما يُرجح في عام 1155 ( المصدر السابق ، ص 69) .

ثالثاً – تعاليم حول الكنيسة

  وهي نصيحة تقدمت بها هيلدجارد إلى الكنيسة ، يوم أصبح كتابها معرفة الطرق إلى الرب ، مشهوراً ومتداولاً ، وبالتحديد في خمسينات القرن الثاني عشر ، كان من أكثر الكتب مطلوباً للقراءة (المصدر السابق ، ص ص 71 – 78) .

رابعاً – رسالة إلى إليزابيث ساشونو

  حال إليزابيث حال هيلدجارد ، فقد كانت حوارية صديقة لهيلدجارد ، والرسالة تكشف بأن إليزابيث كانت صاحبة رؤى مثلها مثل هيلدجارد . ويبدو إن تاريخ الرسالة يعود إلى 1152 وما بعد . وفيها تقول هيلدجارد لإيزابيث : أنا مجرد إمرأة ، ومزهرية معرضة للكسر ، وأنا أتكلم هذه الأشياء ، فهي ليست مني ، وإنما هي من الضوء الآمين . وإن الإنسان هو مزهرية ، بناها الله بنفسة ، وملئها بالآمال ، وبعمله جعلها كاملة … (المصدر السابق ، ص 79) .

خامساً – رسالة إلى كرتريود ستاهليك

  هي أخت الملك كونراد الثالث (1093 – 1152) وهي عمة الإمبراطور فردريك الأول . وقد أهدت هي وزوجها الكثير من المنح المالية إلى دير روبرتسبيرك ، الذي تديره المتصوفة هيلدجارد . وبعد موت زوجها تحولت إلى راهبة . تقول هيلدجارد في الرسالة : بنت الله ، وصاحبة المعرفة الإيمانية الصافية ، إسمعي هذه الكلمات ، التي قيلت عنك بصوت الحب ، والتي سُمعت في أراضينا ، إن هذا هو إبن الله …  وأنا الآن جداً مبتهجة ، بسبب ما سمعته ، ورغبتي أن تكوني كاملة ، ولذلك شاركيني في هذا الفرح والإبتهاج ، وأنا أملة ، بأمل كله صدق ، ستكونين جداراً مرصعاً بالأحجار الكريمة واللؤلؤ  .. (المصدر السابق ، ص 83) .  

سادساً – رسالة إلى رئيسة دير بامبيرك

   صحيح إن هذه الرسالة لفها الغموض ، حيث لم يُعرف أي شئ عن رئيسة دير بامبيرك . ولكن المهم في هذه الرسالة سلطة هيلدجارد السياسية ، وخصوصاً في مجالات التدريب والتربية ، وما يخص عمر البنات قبل دخول الدير ، وهي التجربة التي خاضتها عندما أهداه والديها إلى الكنيسة ، ومن تم إيدعاها تحت رعاية الراهبة جوتا ، ففي هذه الرسالة معارضة لقواعد النظام البنديكتاني الذي تخضع له الأديرة في عصرها ، والمناطق الألمانية ، مما يؤكد أنها عملت هذا النقد دون خوف أو تردد ، مدفوعة بمشروعية رسالتها النبوية . تقول في هذه الرسالة :

 تصوري أيها الأم ، الحقل مملوء بالخصب والثراء ، وتصوري فأن الإنسان الذي يملك هذا الحقل ، توقف عن حرثه ، وتوقف عن عمله مثمراً . فإن هذا الإنسان مهمل . وبسسب إهماله فأنه لا يحصل على أية مكافأة من صاحب العمل . وفكري ؛ من هو الذي خلق الثور والحمار ؟  وبالتأكيد ستقولي الله خلقهما لخدمة الإنسان . ولهذا فإن السؤال : لماذا لا يعمل الإنسان لمنفعته ؟ ونحن نحسب إنه يد الله العاملة ، وإن الله لم يخلقه جُزافاً أو ليكون عاطلاً …

  ولكل هذا ينبغي أن تؤدبن بناتكن على كل الأعمال (منا = بالطبع هناك كلام يعكسصورة عصر هيلدجارد في التأديب والعقاب الجسمي الذي كان مقبولاً من الكنيسة ..) زيدي مكافأتك للحياة الأبدية ، وأعملي بتوجيهات الروح التي هي بالتأكيد ستصاحبك في رحلتك إلى الأبد (المصدر السابق ، ص ص 84 – 85) . 

مثابرة فمنستية في اللاهوت

  أمامنا كتاب ، هو في الحقيقة وصف للواقع الرؤيوي الذي عاشته المتصوفة الألمانية هيلدجارد بنجن ، وهو في نشرته الأنكليزية (الترجمة من اللاتينية) ، عمل ضخم (تكون من 545 صفحة) . وهو أول عمل فمنستي في مضمار اللاهوت في القرن الثاني عشر الميلادي . وجاء هذا العمل اللاهوتي بعنوان معرفة الطرق المؤدية إلى الرب (أنظر : هيلدجارد بنجن ؛ سكيفس أو معرفة الطرق المؤدية إلى الرب ، ترجمة كولومبيا هارت وجين بيشوب ، كتبت المدخل بربارا نيومان ، وتقديم كرولاين ولكر باينم ، نشرة دار بولست ن نيويورك 1990) . وهذا العمل له أهميته الخطيرة في تاريخ اللاهوت المسيحي لثلاثة أسباب :

أولاً – إنه تحدي لعمل رجال الدين واللاهوت المسيحيين الذين إحتكروا لفترة طويلة ، تفسير النصوص الإنجيلية ، ووضع نظريات لاهوتية متنوعة تعكس مصالحهم وتدافع عن مكانتهم ، وتعزز سلطتهم المعرفية . وإن تجربتها المتفردة كسرت فيها دائرة الإحتكار الرجولي لمضمار اللاهوتيات ، ودشنت درباً فمنستياً ، أصبحت له سلطة لاهوتية ، يتقرب منها رجال اللاهوت بمختلف منازلهم ، ورجال السلطة السياسية ممثلة بالملوك إضافة إلى حشود المؤمنين البسطاء .

ثانياً –  إن عملها فيه تحدي للمألوف المتداول في دائرة اللاهوت ، فهي لم تفسر نصاً إنجيلاً ، وتعارض وتؤيد مذاهب لاهوتية كانت سائدة يومذاك . وإنما خطت درباً فيه الكثير من المخاطر على دائرة اللاهوت التقليدية . فتجربتها اللاهوتية ونصوصها ، هي تجرية رؤيا ومشاهدات وكشف صوفي حي ، تمثلت كما قالت على صورة ” ضوء حي ..” . وبذلك صعدت إلى الطوابق العالية في التجربة الدينية المسيحية برمتها . ومنحتها سلطة حملت الصغير والكبير من رجال اللاهوت والسلطة الكهنوتية ، ممثلة بشخص البابا ، أن يطلب منها بالأستمرار في كتابة رؤياها ، ومشاركته في نسخ منها للقراءة والإطلاع .

ثالثاُ – إن كتاب معرفة الطرق المؤدية إلى الرب ، إحتوى الكثير من المعالجات الفلسفية ، وهنا نقدم شواهد من الكتاب . ففي المجلد الأول تناولت هيلدجارد قضية الخلق ، ومثل الفلاسفة قدمت نظرية كوسمولوجية (كونية) ، كما وعالجت مثل الفلاسفة قضية العلاقة بين النفس والجسم . وفي المجلد الثاني معالجة لقضية الشر في العالم ، وهي قضية إشتغل عليها الفلاسفة في مضمار ما يُعرف بالأكسيولوجيات الأخلاقية . وفي المجلد الثالث قدمت دراسة للفضائل وهو موضوع فلسفي ملأ الكثير من قراطيس الفلاسفة .

 في الحقيقة إن هيلدجارد أكملت هذا العمل الضخم ، بعد وخلال تجربة متفردة  عاشتها (كما تقول بدأت تجربتها عندما كانت في عمر ثلاث سنوات إلا إنها كتمت سرها طويلاً) والمتمثلة برؤية ما أسمته بالضوء الحي . وحالها في التجربة الكتابية وفنونها لا يختلف عن حالها في التجربة الروحية ، فهي لا تعرف أساليب الكتابة ، والتعبير عن هذه التجربة الروحية . ولكن عاشت التجربتين وكابدتهما ، وأنتجت عملاً نسوياً تاريخياً متفرداً في مضمار اللاهوت ، بزت فيه كل الأعمال اللاهوتية ، التي كتبها رجال اللاهوت ومن طوابق روحية مختلفة .

   نقول أكملت هيلدجارد هذا العمل اللاهوتي الرؤيوي في عام 1151 أو 1152 م . والتي وصفت فيه تجربتها الروحية – الإلهامية ، وإستمرت في العمل في الملحمة اللاهوتي قرابة عشر سنوات ، والتي إمتدت من عام 1141 وحتى عام 1151 م .

 وتكونت من ستة وعشرين تجربة رؤيوية (المصدر السابق ، ص 22) .

  تألف كتابها اللاهوتي المعنون معرفة الطرق إلى الله من كتابين (في الحقيقة ثلاثة كتب في الترجمة الإنكليزية) : درست في الكتاب الأول (وهو خاص بالخالق) ، الموضوعات الآتية :

1 – في الأيام الستة الأولى للخلق .

2 – في الأسباب الأولية .

3 – في الثالوث .

4 – في إرادة الله وشواهدها .

5 – في خلق الملائكة والإرادة الحرة .

6 – في خلق الإنسان .

7 – في سقوط الإنسان الأول .

8 – في تمكين الإنسان من جديد .

9 – حول أسرار الكنيسة المقدسة .

10 – في عقيدة الإيمان .

11 – في القانون الطبيعي .

12 – في القانون المكتوب (الوصايا العشرة) (أنظر : هيلدجارد بنجن : معرفة الطرق إلى الله ، الكتاب الأول ، ص ص 662 – 143) .

  وتناولت في الكتاب الثاني (وهو الخاص بالفادي والإفتداء) الموضوعات الآتية :

1 – في تجسد الكلمة .

2 – في الكنيسة ونظمها ، والقوى العلمانية .

3 – في القوة الروحانية ، ومنازل رجال الدين .

4 – في الملابس المقدسة .

5 – في تكريس الكنيسة .

6 – في قداسة التعميد .

7 – في سر الميرون (سر كنسي : يتم مسح الجسم بزيت بعد التعميد) .

8 – في قداسة جسم ودم المسيح .

9 – في الحماية من الشر .

10 – في السيمونية (الشراء والبيع ودفع الأجور لرجال الدين …) .

11 – في قداسة الزواج .

12 – في أداء اليمين .

13 – في الرذائل وأعمال الشر .

14 – في الإعتراف .

15 – في معالجة المريض (طقس ديني يستخدم فيه بعض الزيت ..) .

16 – في الموت ، والجحيم والصلوات للموتى .

17 – في نهاية العالم .

18 – في بعث العالم من جديد (أنظر : هيلدجارد بنجن ؛ المصدر السابق ، الكتاب الثاني ، ص ص 145 – 303)

  وبالطبع في النشرة الإنكليزية (المترجمة من اللاتينية) المتوفرة لدينا ، يوجد كتاب ثالث ضمن الأعمال اللاهوتية للمتصوفة هيلدجارد ، جاء بعنوان تاريخ الخلاص مع رسوم توضحية رمزية ، وإحتوى هذا الكتاب على ثلاثة عشرة مشاهدة روحية مع رسوم لها (أنظر : المصدر السابق ، الكتاب الثالث ، ص ص 305 – 536) .  

  إن هذا العمل اللاهوتي في التقويم الأخير ، قدم شخصية المتصوفة هيلدجارد صوتاً لاهوتياً فمنستياً متميزاً ، وضعها في الواجهة الأمامية ، ولتكون نداً قوياً لرجال اللاهوت الذين إحتكروا العمل اللاهوتي والكتابة فيه وإن تكون موضوع تقدير وإحترام البابا ورجال الدين الذين دار في خلدهم في بداية الأمر إن في تجربتها نوعاً من الهرطقة .. إلا إنهم صمتوا عندما لاحظوا إهتمام البابا يوجينوس الثالث بتجربتها وطلب منها الإستمرار وموافاته بالجديد كتابة ، وهو الذي منح الموافقة على نشر كتاب معرفة الطرق إلى الرب ، والتي مهد لها برنارد معلم البابا يوجينس قبل أن ينتخب . وفي سلوك برنارد إزدواج ونفاق فقد كفر وإتهم الفيلسوف بيتر إبيلارد بالهرطقة وحرم كتاباته ، في نفس الوقت وقف بجانب تجربة هيلدجارد التي تنز بأطراف هرطقية كثيرة حسب ميزان برنارد الذي وزن فيه هرطقة الفيلسوف بيتر أبيلارد .

   إن تجربة هيلدجارد اللاهوتية لم تقتصر على الشرح اللغوي أو شرح الأنجيل بأطراف أخرى منها (الأناجيل البقية) أو العودة إلى العهد القديم . إن تجربتها التي بزت هذا العمل اللاهوتي الرجولي ، جاء من خلال الوحي وتجربة المشاهدة الصوفية الحية . ولذلك جاء لاهوتها شاهدة صوفية ، فقد زعمت بأنها رأت بالوحي ما عجز رجال اللاهوت من معاينته . صحيح هناك جدل دار حول هذه المشاهدت الصوفية . إلا إنها إنتصرت وساد لاهوتها وتحولت إلى نبية وناصحة للإمبراطور والسياسيين وتقريباً لنصف أوربا يومذاك . وهكذا يصح لنا الحديث مع كتاب معرفة الطرق إلى الرب ، عن لاهوت مسيحي فمنستي مكتوب بقلم المرأة هيلدجارد بنجن .   

مفهوم هيلدجارد للعدل والحب الإلهيين

  في المقدمة قلنا بأن المتصوفة رابعة العدوية قد تقدمت على المتصوفة الألمانية بحدود الثلاثة قرون ونصف ، وكتبت شعراً صوفياً في الحب الإلهي , وتغنت بهذا الشعر ، ووضعت الإيقاع له . صحيح لا يتوافر لدينا نص يثبت الأثر الذي تركته رابعة على اللاتينية هيلدجارد . ولكن الدليل الوحيد إن القرن الثاني عشر الذي عاشت وعملت وكتبت المتصوفة هيلدجارد أغانيها والتي تحولت إلى أناشيد تنشد في الكنيسة ، هو القرن الذي بدأت فيه حركة ترجمة عارمة من العربية إلى العبرية ، ومن العبرية إلى اللاتينية ، ومن ثم من العربية مباشرة إلى اللاتينية . ونحسب إن تراث المتصوفة العربية رابعة العدوية قد مر بطرق متنوعة ووصل على الأقل إلى مسامع المتصوفة الألمانية هيلدجارد . صحيح إنه إفتراض ، ولكن تشابه التجربيتين في قضية الحب والعدل الألهيين ، تدعونا أن ننبه إلى ذلك ، وربما بهذا التنبيه ، نفتح باب البحث المعمق في هذا المضمار في المستقبل (إضافة إلى الحروب الصليبية وما وفرته من معارف حول ثقافة الشرق العربي وعلوم العرب في الأندلس) .

   فعلاً لقد إنشغل التصوف في مدارسه المختلفة ، بموضوعتي العدل والحب ، وبالطبع العدل والحب الإلهيين . ونحسب من اللازم هنا أن نؤكد بأن تجربة المتصوفات من النساء ، تختلف جذرياً في حسها وشدتها ، لغتها وطوابقها المستهدفة عن تجربة رجال التصوف . عرفنا هذا في تاريخ التصوف الإسلامي بتجارب متنوعة ، فمثلاً تجربة رابعة العدوية تختلف جذرياً عن تجربة الحلاج والشبلي والسهرودي .. وبذلك يمكن الحديث عن تصوف فمنستي (نسوي) ، وتصوف رجولي (ذكوري) وهكذا لعب الجندر دوراً في فهم التجربتين . وحال رابعة العدوية ينطبق على حال المتصوفة هيلدجارد . على كل كتبت الأخيرة مجموعة نصوص تناولت فيها مفهوم العدل والحب . وهذه النصوص هي :

أولاً – الجبل الحديدي

  هذا النص تم إنتخابه من كتابها المعنون معرفة الطرق المؤدية إلى الرب . ومن المفيد إن نشير هنا إلى إن حب الله أو بالتحديد العشق الإلهي ، قضية من وجهة المحافظين في الشرق والغرب قضية فيها الكثير من البدع والهرطقة . وعلى هذا الأساس كان منظار المحافطين من المسلمين لشعر أو أغاني رابعة العدوية في العشق الألهي (أحبك حبين ؛ حب الهوى وحباً لأنك أهلاً لذاك .. أما حب الهوى ..) يندرج في باب الشطح (بدعة وهرطقة) .

   وهذا الحال ينطبق على المتصوفة الألمانية هيلدجارد . مع التأكيد إلى إن رابعة العدوية لم تتحدث صراحة عن مشاهدة الله ورؤية وجه الكريم ، في حين إن العكس هو الصحيح في تجربة المتصوفة الألمانية هيلدجارد . فقد كشفت صراحة عن رؤية الحضرة الإلهية . وبالتحديد وصفته على شكل صورة نورانية مشعة ، جالس على جبل حديدي أو نحاسي  . وفعلاً فإن قارئ معرفة الطرق إلى الرب ، الكتاب الأول ،  المشاهدة الأولى والتي جاءت بعنوان الله جالس على العرش وعرض نفسه أمام أنظار هيلدجارد . يلحظ إن هيلدجارد تصف مشهد الحضرة الألهية ، والتي عاينتها بالصورة الأتية :

هو الذي على العرش محمولاً بقوة ، وكان عرشه جبلاً من حديد ، وقال بصوت عال : ” أو أيه الإنسان ، إنك تراب متطاير عل سطح البسيطة ، وإنك مجرد رماد الرماد … إنهض وإصدح بصوت مدوي في كل الجهات ، ما شاهدت بعون من الله ، وهو الذي بيديه حياة كل مخلوق ، وهو الذي يقرر الطوفان على العالم ، خاف الله ، وتعبد له بحب جميل ، وكن ذليلاً لمجده السماوي النوراني ، ووجه أنظار الذين يستحقون طريق العدل ويبتهجون بالخلود (هيلدجارد ؛ معرفة الطرق إلى الرب / الكتاب الأول ، ص 67).

   الحقيقة هذا الموضوع أي موضوع رؤية الله كان عنواناً  لموضوع الشطح الصوفي عند هيلدجارد بأصطلاحات الإسلاميين المتحفظين ، والهرطقة بإصطلاحات المحافظين من رجال اللاهوت المسيحي ومنهم ناصحها برنارد الذي إستخدمه مرة ضد الفيلسوف أبيلارد ، ولكنه عطله مرة ونافق مع هيلدجارد بسبب إن تلميذه وحواريه القديم ، والبابا الجديد يوجينوس الثالث كان مهتماً بتجربة هيلدجارد ، فتحول عدو الهرطقة برنارد إلى ممهد لقبول هرطقة هيلدجارد المكشوفة (رؤية الله) ، تجربة روحية تتقوى بها الكنيسة  .

ثانيا – مشاهدة الحبيب

  حال هيلدجارد حال المتصوفة رابعة العدوية ، فعندما تتحدث عن الله ، تتكلم عن  الحبيب الوحيد . وفعلاً أننا نجد هيلدجارد في كتاب الأعمال الإلهية ، والذي تمت كتابته في الفترة المتدة ما بين عامي 1163 – 1173 / 1174 ، بعون من النور أو الإشعاع الإلهي ، ترى بمشاهدة صوفية صورة الله على شكل يجتمع فيه الحب والحكمة والجبروت (القوة) ، وبالحرف الواحد تقول هيلدجارد واصفة حبيبها الألهي الوحيد :

  ورأيت سر الله على صورة إنسان في غاية الجمال والعظمة ، ووجهه كان جميلاً ونورانياً ، وكنت قادرة بيسر على التحليق كما أنني أنظر إلى الشمس … وهذا يدلل على إن حب الأب السماوي ، الذي فيه قوة للروح الإلهية التي لا تتوقف ، وهذا الجمال الأخذ ، وهباته اللامحدودة التي ظهرت في صورة إنسانية ، بسبب إن إبن الله جسم إنساني ، والذي سيضحي بنفسه لضياع الإنسانية ، وإن كل ذلك سيتحقق عن طريق عبادة الحبيب ..(هيلدجارد بنجن : كتابات مختارة ، ص ص 171 – 174) .

هيلدجارد ونظرية الخلق

   تناولت هيلدجارد نظرية الخلق ، ومن زوايا صوفية ممزوجة بلاهوت فيه مدح لعملية الخلق . ولكن فيه تصوير روائي ، وفيه خروج على مفهوم الخلق الإنجيلي المتداول . جاء كل ذلك في النصوص الآتية : 

أولاً – البيضة الكونية (الكوسمولوجية)

   إن من الصور الشائعة في كتابات هيلدجارد بنجن ، خصوصاً عندما تتحدث عن خلق العالم أو الخليقة ، هي إستخدامها لإصطلاح البيضة الكونية ، وتاريخ تداول هذا الإصطلاح ، يصعد إلى المشاهدة الصوفية الثالثة التي عاشتها ، والتي وردت في الكتاب الأول من عملها اللاهوتي المعنون معرفة الطرق إلى الرب . صحيح إنها تتحدث عن الكون كموضوع فيزيائي (طبيعي) ، إلا إنها أكثر إلتحاماً به في حياتها العقيدية وبالتأكيد في أحداث التاريخ . ويبدو إنها كانت مدركة للعلاقة الترابطية بين عالمي المياكروزم والميكروزم (أي الكون العالم الكبير والإنسان العالم الصغير) . وهذا الترابط بين العالمين كون نظرتها التي أعلت من الوجود الإنساني (وبالمناسبة إن أخوان الصفا في رسائلهم قد أكدوا على هذه العلاقة بين العالمين ؛ الكون والإنسان ، وقدموا صورة رائعة للترابط تبدأ من الجمادات وعالم النبات ، صعوداً إلى الإنسان ، ومن ثم الملائكة …) .

   ففي الكتاب الأول من معرفة الطرق إلى الرب ، وبالتحديد في القسم الثالث ، تقدم لنا وصفاً لمشاهدتها الصوفية ، فتقول :

  بعد كل هذه الأشياء ، رأيت شكلاً كبيراً جداً ، دائري الشكل مُعتماً ، يشبه البيضة ، مدبب في القمة ، واسع في الوسط ، ويضيق في الأسفل ، وطبقته الخارجية تتألف من مجال ناري ناصع ، وتحته طبقة معتمة ، وفي ذلك المجال الخارجي توجد كرة نارية حمراء كبيرة جداً ، وهي التي تنير االمناطق العالية فوقها . ومباشرة فوق الكرة النارية ، يوجد أفقياً ثلاثة أنوار متتابعة ، وهي ثابتة بنارها وطاقتها ، وتمنعها من السقوط .

   وفي الوقت الذي ترتفع فيه كرة النار إلى الأعلى ، فإنها ستواجه ناراً أكثر ، والحاصل منا حدوث لهب عظيم . وفي الوقت الذي تتحرك فيه كرة النار إلى الأسفل ، فإنها ستواجه منطقة من البرودة الشديدة ، والنتيجة إنطفاء لهيبها . ومن المجال الخارجي للنار ، تهب رياح فتسبب العواصف . ومن تحت المجال المعتم تهب رياح أخرى ، فتسبب عواصف أشد ، والتي تأخذ بالحركة في كل إتجاهات العالم … (هيلدجارد بنجن ؛ كتابات مختارة ، ص 89) .

  ورأيت تحت الطبقة الداكنة ، أثير خالص ، وشاهدت هناك كرة نارية ذات حجم عظيم مملؤة بالطاقة المشعة البيضاء . ويوجد تحت الأثير طبقة من الهواء المائي … ورأيت بين الشمال والشرق جبل فيه منطقة مظلمة في الشمال ، ومنطقة ضوء في الشرق . والظلمة لا تؤثر على المنطقة المنيرة ، ولا المنطقة المنيرة تؤثر على المنطقة المظلمة . ومرة أخرى سمعت صوتاً يتكلم إلي من السماء (المصدر السابق ، ص 90) .

  ومن ثم الله خلق كل شئ بإرادته ، وذلك لتشريف إسمه وعبادته . وخلال عملية الخلق ، لم يخلق فقط الأشياء المرئية والزائلة (الموقتة) ، وإنما خلق الأشياء العصية على الأدراك والأبدية (الخالدة) (المصدر السابق ، ص 91) . أما الحديث عن خلق العالم ، فيبدو إن هيلدجارد قد قبلت الكثير من الأراء اللاهوتية والفلسفية والعلمية التي كانت سائدة في القرن الثاني عشر . وهي الأراء التي تتمثل بالثنائية (المادة – الفاعل) إضافة إلى الصورة الخيالية للكون على أساس بيضة كونية . والحقيقة إن كتابها معرفة الطرق إلى الرب يحتوي على العدديد من النصوص الخاصة بالكون البيضة أو البيضة الكونية (الكوسمولوجية) (أنظر : هيلدجارد بنجن ؛ معرفة الطرق إلى الرب (مصدر سابق)) .

 ثانياً – طبيعة الله وفعل الخلق

  إن مشاهدة هيلدجارد الصوفية وهي تتحدث عن طبيعة الله وفعل الخلق تختلط مع ما تحفظه من نصوص من العهدين القديم والجديد . والشاهد على ذلك قولها :

   وكان الله قبل خلق العالم ، وليست هناك بداية له ، بسب إنه على الدوام ضوء ومتعالي (مجيد) . وهو على الدوام حياة . ولذلك فإن الله عندما رغب في خلق العالم ، فإنه خلقه من العدم ، بسبب إن كل مواد العالم موجودة في إرادته (هيلدجارد بنجن : كتابات مختارة ، ص 91) . وعندما كشفت إرادة الله عن نفسها ، جاء خلق الحقيقة كلية ، وإنه فقط عندما رغب في الخلق ، فإن كل مواد العالم خرجت من إرادته ولكن غير مُتشكلة ، مثلها مثل كتلة معتمة (المصدر السابق) .

  ومن ثم جاءت كلمات الرب الأب معلنة :  دع الضوء يكون هناك ، ومباشرة أصبح كل شئ منيراً ، والعالم إمتلاً بالملائكة (المصدر السابق ، ص 94) . ومن ثم جاء سقوط لوكفير (إبليس) ( المصدر السابق ، ص ص 94 – 95) . وعندما خلق الله العالم ، قرر أن يكون هو الإنسان (المصدر السابق ، ص 95) . ومن ثم جاءت عملية خلق النفس (المصدر السابق) …

قراءة في كتاب الفيزيكا (الصحة والعلاج)

   إمتلكت المتصوفة الألمانية هيلدجارد ، ذهنية ثاقبة ، فكانت لا تستسلم للتحدي ، وإنما تتفهم ظروفه ، وتسعى إلى تطوير معارفها ، وإصطناع وسائل لمواجهة هذا التحدي ، ومن ثم توظيفه إيجابياً لخدمة غرضها النبيل . فقد عملت وكتبت وصفات للحفاظ على الصحة والعلاج من الأمراض . وحقاً بزت هيلدجارد في مضمار الصحة والعلاج جميع معاصريها من رجال الدين والعلمانيين ، وقدمت رمزاً فمنستياً رائعاً في خدمة ديرها أولاً ومن ثم المجتمع المحيط . فعلاً حدث هذا في مضمار كتاباتها الطبية ، وبحثها عن وسائل علاج للمرضى في الدير الذي تعمل رئيسة له ، ومن ثم في المجتمع الألماني والمسيحي .

  ومن النافع الإشارة إلى إن المتصوفة هيلدجارد ، كانت مؤمنة هي ومعلمتها جوتا بروح النظام البندكتاني ، الذي نظم حياة الرهبنة والإديرة . وكانت هيلدجارد مستوعبة لجوانبه العقيدية والإدارية (مع الإنتباه إلى إن روحاً نقدية أخذت تتنامى لدى هيلدجارد للنظام البندكتاني كما أشرنا أعلاه) . ونحسب إنها قارءة جيدة ومتابعة لقواعده في حياة الراهبات وصحة الدير الذي تعمل فيه . ومن المعروف  إن القديس بنديكت (480 – 543 م) هو مؤسس جمعيات الرهبان الإثنا عشر ، وواضع القواعد لحياتهم (أنظر : الديفانسو سوشستر ؛ القديس بنديكت وعصره ، نشرة دار هريدر ، لندن 1951) . ومن قواعد القديس بنديكت ” رعاية المريض ، هي واحدة من وسائل أعمال الخير ” . وفي ذلك الوقت بدأ الرهبان يزرعون الحدائق بأعشاب العلاج ، وكانوا أطباء عصرهم (أنظر : هيلدجارد بنجن ؛ الفيزيكا (الصحة والعلاج) ، ترجمها من اللاتينية إلى الإنكليزية براشيلا ثروب ، روشستر 1998  / مدخل المترجم ، ص 3) .

   وفي القرن التاسع الميلادي ، واحد من أسلاف المتصوفة هيلدجارد ، وهو لوتبارج ، الذي كان يعيش في صومعة معزولة في شرق سكسونيا  ، كان يعالج أبناء السبيل والفقراء ، ويجدد شروطهم الصحية . وكرس نفسه لرعاية المريض (المصدر السابق) . كما إن هيلدجارد في كتابها حياة القديس دايسبود الذي كتبته ، قد بينت بأنه زرع المكان ، الذي سيطلق عليه دايسبودنبيرك ، ووصفت دايسبود بالحرف الواحد :

إنه حافظ على صحته ، وصحة أصحابه بالإعتماد على جذور النباتات ، وذلك عندما لايتوافر لهم أي طعام ، وبذلك تصرف كرجل أعشاب خبير ، وهو الذي زرع في حديقته التوابل ، ونباتات عطرية ، وعمل بجهد على الحفاظ على حديقته خضراء وليست جافة  .. وكان يمر به الناس ، وهو يحفر في الأرض باحثاً عن جذور النباتات أو جامعاً الضروريات الأخرى ” و ” إن جميع المرضى والضعفاء من الناس الذين جُلبوا له ومن خلال أعشابه ، وبمساعدة من روح القدس ، شفوا من أمراضهم ” (المصدر السابق ، ص 4) .    

   وكانت هيلدجارد تتمتع بعقلية علمية منظمة ، فبدأت بقراءة واسعة لكل المتوافر من مؤلفات في اللاتينية ، والتي كانت لغتها ولغة الثقافة والعلم في عصرها . ومن الإنصاف القول إنها لم تكتف بالقراءة ، فحساسيتها العلمية الذكية ، دفعتها أن تلاحظ وتختبر ، وتعد الوصفات ، وتستخدمها وصفات للمرضى ، ومواد للحفاظ على صحة الدير . وهكذا جاءت كتاباتها الطبية ، والأدق في الصحة والعلاج بسيطة واضحة ومباشرة . ومن المفيد أن نذكر بأننا قد ذكرنا في سيرتها الذاتية أعلاه ، بأنها عملت في دير القديس دايسبود عاملة لجمع عروق النباتات الجافة وخزنها لأغراض العلاج والمحافظة على الصحة . إذن هذه الخبرة ربما تركت أثراً واضحاً في توجهاتها اللاحقة والتي تتوجت في كتابها الفيزيكا .

   ونحسب من النافع الإشارة إلى إن القرن الذي عاشت وكتبت فيه هو القرن الثاني عشر الذي شهد لأول ترجمة واسعة للتراث العلمي العربي ، وخصوصاً الطبي منه ، والوافد من الشرق إلى المكتبات في المدن الأندلسية (أسبانيا) من العربية إلى العبرية أولاً ، ومن ثم من العبرية إلى اللاتينية ومن العربية مباشرة إلى اللاتينية ، وهذه  المدن ومكتباتها أصبح بعض منها بأيدي المسيحيين ، بعد إن هجرها العرب وفروا منها . مع الإشارة إلى إن بعض العرب واليهود بقوا وعملوا مترجمين أو مساعدين في الترجمة ، فشاعت في اللاتينية ترجمات لمعظم كتب الطب والعلوم العربية (أنظر : محمد جلوب الفرحان ؛ المصدر السابق) .

  ونحن نرجح بأن المتصوفة هيلدجارد ، قد قرأت هذا الترجمات أو بعضها في مضمار الطب والأعشاب (العقاقير العربية) وكانت مصادراً في كتابة مؤلفها الشهير الفيزكيا أو في الصحة والعلاج . والحقيقة إن هيلدجارد إختارت لها العنوان الأتي : الصفات المتنوعة للأشياء الطبيعية  ، ومن ثم أُطلق عليها عنوان الفيزيكا . ونشره  جوهان سكوت عام 1533 م في ستراسبورك . وظل هذا الكتاب لفترة طويلة ، النص الوحيد المتداول . ولايعرف الباحثون المخطوطة التي إعتمد عليها سكوت في نشر الكتاب . وفيما بعد تم إكتشاف مخطوطات مختلفة ، فخلقت نوعاً من الحيرة حول نشرة سكوت ، خصوصاً عندما تمت مقارنة الكتب التسعة بالمخطوطات . فمثلاً في نشرة سكوت هناك حذف في كتاب الأحجار ، وفي كتاب مواد غير مجربة ، وأشياء أخرى كثيرة ، غير موجودة في نشرة سكوت ، إلا إنها موجودة في المخطوطات المكتشفة (هيلدجارد بنجن ؛ المصدر السابق ، ص 4) .

  كون هذا الكتاب موسوعة طبية صغيرة في العلاج  ، تألفت من تسع كتب ، وجاءت عناوينها بالشكل الآتي :

الأول – كتاب النباتات (أنظر : هيلدجارد بنجن ؛ الفيزيكا (الصحة والعلاج) (مصدر سابق) ، ص ص 9 – 97) وهذا الكتاب يُعد أوسع الكتب التي تألفت منها الموسوعة ، وأكثرها تفصيلاً . وإذا أضفنا إليه الكتاب الثالث والمعنون الأشجار (ص ص 105 – 135) ، والذي يدخل موضوعه ضمن مضمار المملكة النباتية ، فإن هذين الكتابيين كونا أكثر من نصف حجم هذا الموسوعة . 

    وتقصد هيلدجارد بمعالجة النباتات مصدراً من مصادر علاج الأمراض والمرضى ، وبيان دورها في الحفاظ على الصحة . وفي بداية هذا الكتاب تتحدث هيلدجارد عن نظرتها الإنسانية ، وذلك عندما تتحدث عن الحياة على الأرض ، وخصوصاً  في العلاقة بين الأعشاب الضارة وقضية الشر . وهي المسألة التي تواجه جميع الأديان بلا إستثناء ، وتسبب حرجاً ونقوصاً في تفسيرها . ويبدو لنا هنا إن المتصوفة لمحت لنظرية جديدة تسهم في فهم طرف من قضية الشر ، وفي تلميحها فائدة ، وفيه ريادة وذلك لكونه جاء من داخل تفسير بايولوجي (نباتي) لا علاقة له بالعقيدي فتقول :

مع الأرض خُلق الإنسان ، وإن كل العناصر تعمل لصالحه ، وتُحافظ على حياته ، وقد يُسئ البشر إستعمال هذه العناصر ، في تيسير حياتهم . وإن الإنسان من طرف يكون على الدوام مهموماً بها . وإن الأرض معطاء ، تهب الطاقة الحيوية على أساس جنس الإنسان ، طبيعته ، عاداته وتقاليده . وكذلك البيئة التي  يعيش فيها . ومن خلال الأعشاب النافعة ، فإن الأرض هي التي تجلب مدى عريض من القوى الروحية للبشر ، وهي في الوقت نفسه تقيم الحدود الفاصلة بين الأعشاب النافعة والأعشاب الضارة وسلوكها الشراني (المصدر السابق ، ص 9) .

الثاني – كتاب العناصر (المصدر السابق ، ص ص 99 – 103) ، ومادته جداً مقتضبة (ضمت خمس صفحات فقط) ، بحيث لاتشكل فصلاً من كتاب . مما تثير الشك حول المخطوطة الخاصة بهذا الفصل ، والشك حول حجم الضائع منها . وفيه تتحدث عن الهواء والماء ، والبحر ، والأنهار ومصادر المياه ونوعيتها في ألمانيا …

الثالث – كتاب الأشجار (المصدر السابق ، ص ص 105 – 135)  ، وفيه تتحدث  المتصوفة هيلدجارد (كباحثة في الصحة وعلاج الأمراض) عن وصفات نباتية ، فمثلاً ذكرت أشجار التفاح  ، ورأت إن مزجها مع أوراق العنب يمكن إن يستخدم المزيج علاجاً لجفون العيون (المصدر السابق ، ص 15) . وأشجار الخوخ بالنسبة لأشجار التفاح مثل الكبد إلى الرئتين ، والخوخ له مضار وبعض أجزائه لها منافع في علاج ألام الصدر والرئة (المصدر السابق ، ص ص 106 – 107) . ونقفز إلى أشجار التمر ولها فوائد ومضار ، فإن أكلها يمنح الجسم قوة ، وربما مضارها ألام في الصدر (المصدر السابق ، ص ص 134 – 135) .

الرابع – كتاب الأحجار (المصدر السابق ، ص ص 137 – 156) وبدأت الفصل بالإشارة إلى إن كل حجر يحتوي على نار ورطوبة  . وكلام لاهوتي ممزوج بخيالات جيولوجية ، هي الأساس الجيولوجي لتشكل الأحجار المتنوعة ، وتمييز الأحجار الكريمة عن سواها من الأنواع الأخرى (المصدر السابق ، ص 137) .

وتتحدث عن التكوين الجيولوجي لحجر الزمرد ، ومن ثم وظيفته العلاجية ، فتقول : يتشكل الزمرد في ساعات الصباح ، وبالتحديد مع بزوغ الشمس (المصدر السابق ، ص 138) . ويستخدم في علاج الجروح المتولدة من حشرات الأرض ، فتقترح وضع الزمرد على قطعة قماش قطنية فوق الجرح ، ولكون الزمرد حار ، فأنه يقتل الحشرة بعد علاج يستمر ثلاثة أيام (المصدر السابق ، ص 139) .

   ونقفز إلى حجر الكرستال ، فهو يتولد جيولوجياً حسب منظار المتصوفة هيلدجارد من مياه باردة بدرجات ثابتة (المصدر السابق ، ص 153) . وتشرح وظيفته لعلاج غشاوة النظر ، وذلك عن طريق إحماء الكريستال قرب العين . وبسبب طبيعته المائية ، فأنه يسحب الأخلاط الرديئة من العين ، فيحصل شفاء للعين (المصدر السابق ، ص 154) .

الخامس – كتاب الأسماك (المصدر السابق ، ص ص 159 – 175)

    وإستهلت هيلدجارد كتاب الأسماك ، بالإشارة إلى حقيقة حياة الأسماك ، فقالت : إن إنواعاً من الأسماك طبيعياً تعيش في أعماق البحار والأنهار . تنبش أعماق البحار والأنهار ، مثلهم مثل حال الخنازير تنبش سطح الأرض (المصدر السابق ، ص 159) . وبهذه الطريقة فإن الأسماك تأكل طعاماً صحياً جيداً . وإن الشخص الذي يأكل هذه الأسماك سيتمتع بصحة جيدة (المصدر السابق) .

   ومن ثم تقدم وصفاً لأنواع الأسماك ، حياتها وأنواع الطعام الذي تأكله ، والفوائد التي يمكن الحصول عليها من تناول هذه الأسماك في وجبات الطعام . ومن الأمثلة على الأسماك الحوت (المصدر السابق ، ص ص 161 – 164) ، والسلمون (المصدر السابق ، ص 166) ، والإيل (المصدر السابق ، ص ص 174 – 175) .

السادس – كتاب الطيور (المصدر السابق ، ص ص 177 – 202)

   في بداية هذا الكتاب تتحدث المتصوفة هيلدجارد عن النفس الإنسانية وعلاقتها بالجسم ، وتعتقد بأن طبيعة النفس هوائية ، ولهذا السبب ترتفع عالياً في الهواء ، وإذا ما دخلت الجسم فإنها تختنق . وبدخولها الجسم الإنساني ، فهي التي تمتلك ملكة الذكاء والتوازن (الإستقرار) (المصدر السابق ، ص 177) .

   ويبدو إن الحديث عن النفس والجسم الإنساني ، كان مقدمة لمعالجة موضوع الطيور . وفعلاً فقد ذهبت هيلدجارد إلى إن الطيور ترتفع بواسطة ريشها في الهواء ، وبما إنها تسكن في كل مكان في الهواء ، فهي خُلقت من أجل النفس (المصدر السابق) . وما دام الكتاب عن الطيور ، فنترك الحديث عن النفس والجسم الإنساني ، ونتحول إلى أمثلة عن الطيور في هذا الكتاب .

  إن أول الأمثلة كان الحديث عن طير ميثولوجي (إسطوري) ، هو كرفين . وهنا إنحرف البحث في الطيور إلى بحث ميثولوجي ، لاعلاقة له بالعلاج والحفاظ على الصحة . ويبدو لنا إن دائرة ثقافة عصر هيلدجارد كانت مهتمة بالحديث عن هذا الطير الخرافي (الإسطوري) . أو إن المصادر التي إعتمدت عليها ، هي الأخرى وقعت في فخ هذا البحث الميثولوجي ، الذي لا يمت بصلة لعالم الطيور وفسلجتها ، ووظيفتها في علاج الأمراض التي يتعرض لها الأنسان ، وكيف إن الطيور تسهم من طرفها في المحافظة على صحته .

  تقول هيلجارد واصفة هذا الطير الميثولوجي كرفين : له طبيعتين ؛ واحدة مثل الطيور ، وواحدة مثل البهائم . ومن طرف الطيور هو ناعم ولذلك فإن حجم جسمه يمنع وزنه من الهبوط إلى الأسفل . ومن طرف البهائم ، إنه يأكل البشر .. وفي كلا الطبيعتين فإن أي جزء من جسمه يكون معيوباً وناقصاً ، ولهذا لا يمكن أن يكون دواء للبشر (المصدر السابق ، ص ص 177 – 178) .

  وهنا قائمة طويلة من الطيور ، وأفضل أن أتحول إلى مثال أخر تناولته هيلدجارد دواء وعلاجاً للأمراض التي تصيب البشر . وهذا المثال ركز على النعامة ، وهي بنظرها طير حار جداً ، وفيه طبيعة بهيمية ، وله ريش مثل الطيور ، ولكنه لا يطير ، وإنما يركض ويجري مثل البهائم . ومن ثم تتحول إلى الحديث عن الوظيفة العلاجية الطبية ، فتقول : إن النعامة نافعة للشخص المصاب بالصرع ، خصوصاً إذا تناول لحمها ، فإن ذلك سيكون طريقاً لشفائه من جنون الصرع (هكذا وردت) (المصدر السابق ، ص 178) . هذه المعارف الواردة في كتاب المتصوفة هيلدجارد ، تحولت بسبب تقدم الطب وألياته إلى مجرد حكايات لا تصمد أمام الإختبار الطبي وما يمتلكه من إمكانات تكنولوجية في التحليل والتشخيص والدرجات العالية في التحقق من فوائد العقاقير وتأثيراتها الجانبية وأضرارها البعيدة المدى ..    

السابع – كتاب الحيوان (المصدر السابق ، ص ص 205 – 227)

   تفصح هيلدجارد في المقدمة عن خصائص مشتركة بين الحيوان والإنسان ، حيث تقول : ” أنت (أو أنتم) مثل هذا الحيوان ، أو ذاك الحيوان “ . وذلك لأن الحيوانات تمتلك خصائص مشابهة لطبيعة الإنسان . ومن طرف أخر إن الحيوانات تأكل بعضها البعض ، وتتغذى على الأطعمة الفاسدة ، وتلدُ ولادات كثيرة (مثل الذئاب ، والكلاب والخنازير) ، وهي من طرف أخر تشبه الأعشاب الضارة ، التي تُسبب أضراراً للإنسان (المصدر السابق ، ص 205) .

  وهناك حيوانات الرعي التي تأكل الطعام النظيف مثل التبن ، وتلد وليداً واحداً ، وهي تشبه النباتات الجيدة والنافعة ، وتوفر حيوانات الرعي للإنسان الطعام من لحمها ومنتجاتها . وفي كلا النوعين السابقين من الحيوانات يتوافر علاج طبي معين (المصدر السابق) . والأمثلة كثيرة التي يدرسها كتاب الحيوان ، منها الفيل ، الذي فيه حرارة الشمس . وإن عظامه هي الجزء المهم في العلاج ، وذلك لأن فيها الكثير من الرطوبة التي فيها العلاج والشفاء . أما كبد الفيل ، ورئتيه والأجزاء الأخرى فلا قيمة لها من زاوية الطب والعلاج (المصدر السابق ، ص 206) .

  والمثال الأخر الذي نستشهد به من كتاب الحيوان ، النمل ، وهو حار ، وينمو من الرطوبة ، وطبيعته متشابهة إلى حد ما إلى طبيعة الطيور ، وذلك من حيث إنها تضع البيوض . وهي مهمة جداً من الناحية الطبية والعلاجية ، حيث تقول هيلدجارد : إن الشخص الذي يُعاني من برودة في الرأس ، ويوجد بلغم في الصدر والمعدة ، فإن الشفاء يكون بالنمل ، وذلك بطبخه في الماء ، ومن ثم يسكبُ على حجر ساخن ، ومطلوب من المريض أن يتنفس من الأنف والفم البخار المتصاعد ، وإن يكرر ذلك من عشر مرات إلى خمسة عشر مرة ، فإن البرودة والبلغم تختفي (المصدر السابق ، ص 226) .      

الثامن – كتاب الزواحف (المصدر السابق ، ص ص 229 – 235)

  تبدأ هيلدجارد هذا الكتاب بمقدمة لاهوتية ، تفسر فيها اللعنة التي إرتبطت بالثعبان ، فتقول : في البدأ كل الكائنات التي خلقها الله كانت خيرة (بريئة) . ولكن الشيطان إستخدم الثعبان وسيلة خداع للإنسان ، ولهذا السبب طُرد من الجنة . والزواحف من طرفها كذلك ، وبعد إن تذوقت النعمة الإلهية ، تطلعت للأنتقام من الإنسان ، وجعل حياته أكثر صعوبة ، وذلك من خلال سمومها القاتلة (المصدر السابق ، ص 229) . وهناك زواحف تولد سماً قاتلاً للحيوانات والإنسان معاً . وهناك سموم تقتل الإنسان فقط (المصدر السابق) .

  ومن الشواهد التي درستها هيلدجارد في كتاب الزواحف ، الثعابين التي تكون حارة ، ولها القابلية على العيش على سطح الأرض وفي الماء . وتمتلك مهارات وفنون شرانية ، حيث تتخفى لتهاجم البشر . والثعبان زاحف مُعادي خطير للإنسان ، وهو ينفث السموم على فريسته … ولا يوجد علاج مناسب في كبده وبقية أعضاء جسمه (المصدر السابق ، ص ص 230 – 231) .

التاسع – كتاب المعادن (المصدر السابق ، ص ص 237 – 241)

  إستهلت هيلدجارد كتاب المعادن بمقدمة لاهوتية ، كونت الأساس الجيولوجي لتشكل المعادن . فقالت : في البداية كانت روح الله طافية على وجه المياه ، ومن ثم المياه غطت وجه الأرض . وبقيت المياه راكدة ، ولكن أنفاس الروح حملتها على الجريان ، وهذه المياه إنتشرت على كل الأراضي وأنعشتها .. وإن نار المياه حولت الأرض إلى ذهب . في حين إن المياه الطاهرة (الخالصة) التي إخترقت الأرض ، تحولت هي والأرض إلى فضة . بينما المياه المترددة التي إخترقت الأرض ، والتي تحركت بسبب الرياح تبدلت إلى ستيل (الصلب) وحديد . والحديد والستيل هي من أصلب المعادن .. (المصدر السابق ، ص 237) .

  ومن الأمثلة على المعادن التي عالجتها هيلدجارد في كتابها الخاص بالمعادن ؛ الذهب ، وهو معدن حار ، وإن طبيعته تشبه إلى حد ما الشمس ، وهو يشبه على الأغلب عنصر الهواء (المصدر السابق) . ويوصف مسحوق الذهب مع الطحين ،  للشخص الذي يُعاني الصمم ، وذلك بعمل عجينة ولصقها بأذن المريض . فإن الحرارة تنتقل إلى أذنه ، وإن إستعمالها سيؤدي إلى شفاء المريض (المصدر السابق ، ص 238) . والإمثلة كثيرة .

  إن هذه الكتب التسعة ، تمنح المتصوفة الألمانية هيلدجارد ، دور الخبير في الأعشاب والنبات والأحجار والزواحف ، والطيور .. الخبير العارف في إستخدامها وسائل علاج للأمراض ، ومصادر طبيعية في المحافظة على الصحة . وهذا مضمار قصر فيه رجال الدين في عصرها ، فضيعوا الوقت الثمين في الجدل اللغوي حول بعض الكلمات والمفاهيم التي ضمتها النصوص الدينية وشروح الرواد . في حين كانت تتقدم الصفوف المرأة المقاتلة هيلدجارد ، تعمل في عالم النبات والأعشاب .. وتدق الأرض ، وتحفر في بواطنها ، باحثة عن جذر نبات أو عرق شجرة .. وذلك بهدف إكتشاف عشب جديد ينفع في علاج مرض أوالسيطرة عليه والحد من إنشاره .

أعمال هيلدجارد في الترانيم (الأناشيد الدينية) والموسيقي

  أشرنا في سيرتها الذاتية إلى إنها تعلمت غلى يد معلمتها جوتا العزف على ألة القيثارة ، وكذلك أشرنا إلى إنهما كانا يقضيان وقتاً محدداً في الأسبوع لترديد الأناشيد والترانيم الدينية . وربما إن معلمها الثاني فالمر قد علمها كتابة النوطات الموسيقية وذلك من خلال زيارته لها وتعليمها الأناشيد الدينية . ويُلادظ إنها في هذا الوقت بدأت بدراسة الموسيقى والتأليف الموسيقي . وهذه المرحلة بالتأكيد تركت أثرها اللاحق في مضمار عمل هيلدجارد الموسيقي (أنظر : كارول ريد جونز ؛ هيلدجارد بنجن : المرأة صاحبة الوحي ، نشرة دار أوراق كران ، واشنطن 2004 ، ص 6) .

    وفعلاً فقد  كتبت هيلدجارد العديد من الأعمال الموسيقية ، وسمفونية واحدة (هي مجموع مفتوح لعديد من الأغاني والأناشيد الدينية) ، والكثير الكثير من الأغاني التي وضعت موسيقاها بنفسها ، وكانت راهبات ديرها يتغنين بها قبل قراءة الإنجيل ، ومصاحبة له ، وفي هواجع الليل ، بحيث تحولت إلى ترانيم روحية وأناشيد دينية .

  إن قائمة مؤلفاتها تشير إلى عمل موسيقي في غاية الأهمية ، وكان بعنوان سمفونية تناغم الإلهامات السماوية ، وهي مجموعة أغاني ، إستهلتها هيلدجارد في الفترة المتوسطة من عملها المهني ، والتي تتوسط بين فترتين مهمتين في حياتها ؛ الأولى فترة إكمال عملها اللاهوتي المعنون معرفة الطرق إلى الرب ، والذي إكملته في العام 1151 . والثاني الفترة التي بدأت فيها عملها المعنون حياة الفضائل ، وبالتحديد في العام 1158 . وهي دراما موسيقية مبكرة في العصور الوسطى ، ومن حسن حظنا إنها بقيت خالدة نصاً وموسيقى . والسمفونية ضمت أكثر من سبعين أغنية . وبالمناسبة إن مسرحية حياة الفضائل قد تم تمثيلها من قبل راهبات دير روبرتسبيرك في حياة هيلدجارد ، وبالتحديد في عام 1152. وهناك نص مختصر دون موسيقى لمسرحية حياة الفضائل في نهاية كتاب معرفة الطرق المؤدية إلى الرب ( أنظر : سبينا فلانكن ، أسرار الله : كتابات هيلدجارد بنجن ( مصدر سابق) ، ص 119) . وكتبت مسرحية الفضائل شعراً ، وتكونت موسيقاها من إثنين وثمانين لحناً (أنظر : باليسكا كلود ؛ مجموع نورتن للموسيقى الغربية ، نشرة دار نورتن ، نيويورك 1996 ، المجلد الأول ، ص 35) .

  ومن ثم ضمت السمفونية بعض الأغاني التي ألفتها في فترة متأخرة ، وتم إضافتها إلى المجموع . ولاحظ الباحثون إن المخطوط الكامل للأعمال الموسيقية ، هو مخطوط رايزنكوديكس ، والذي يعود إلى ثمانينات القرن الثاني عشر . وهنا نقدم ترجمة لعينة مختارة من مجموع الأغاني :

1 – الأغنية الدينية الأولى

آه أيها الأب العظيم ، إن حاجاتنا كبيرة

ونحن نتوكل عليك

ونتوكل عليك من خلال كلماتك

وأنت الكريم الذي يُلبي ما نحتاج إليه

وبالتأكيد ستبتهج ربنا

وسترضى على أعمالنا

أعطف علينا بعونك وشفاعتك

وأنت عارف بأننا فانون

وإن إسمك سيبقى خالداً

ويكون سوراً لحمايتنا

وبإسمك ربنا إسرع لمساعدتنا (هيلدجارد بنجن ؛ كتابات مختارة (مصدر سابق ، 115) .

2 – الأغنية الثانية

آه أيها الإله السرمدي

الآن هناك إحتمال في إنها تُبهجكُ

إنها تحترق في الحب

ولهذا أصبحنا الحمل

تزين بالحب كلما شعرت

وبينما تُولد إبنك

في ساعات الفجر

وقبيل كل المخلوقات

وفكرت في هذه الحاجة التي هبطت إلينا

فإنتزعها منا لأجل ولدك

وأرشدنا إلى بهجة خلاصك (المصدر السابق ، ص 116) .

3 – الأغنية الثالثة : مريا (أو مريم) الحواء

السلامُ على مريا ، صانعة الحياة

أنت التي شيدت صرح خلاصنا

وأنت من جعل الموت يترنح

ومحقت الثعبان (منا = رمز الشر والشيطان في المسيحية)

ولهذا نهضت الحواء

ورأسها مرفوعاً عالياً بكل إفتخار

وعندما خطوتي بقوة

أنجبت إبن الله الذي جاء من السماء (الجنة)

بإلهام من روح الله

فسلام عليك ، أيتها الأم الحلوة المحبوبة

كرمك عظيم ، فقد وهبت العالم رضيعك الصغير

والذي جاء من السماء

بإلهام من روح الله

المجد إلى الأب ، والإبن وروح القدس

وبإلهام من روح الله (المصدر السابق) .

4 – الأغنية الرابعة

بقوة الخلود والسرمدية

رسمت كل الأشياء في قلبك

وخلال كلمتك ، كل الأشياء ظهرت إلى الوجود

وكما رغبت

…..

وكم هي عظيمة طيبة فادينا

الذي حرر كل الأشياء من خلال تجسده

ومن خلاله نفخ الله الروح الخالصة من الخطيئة

وحرر أجسامنا البشرية من الكرب العظيم

فالمجد إلى الأب والإبن وروح القدس

الذي حرر أجسامنا البشرية من الكرب العظيم (المصدر السابق ، ص 122) .

5 – الأغنية الخامسة : الفضائل

بقوة الحكمة

حركت جميع الأشياء

وأدركت جميع الأشياء

والصراط الوحيد ، هو صراط الحياة

ثلاثة أجنحة :

واحد يحلق في الأعالي

وواحد إنبثق من الأرض

وأخر يحلق في كل مكان

فالحمد لك ، يا حكيم (المصدر السابق) .

 ومن المفيد أن نختتم كلامنا عن موسيقى هيلدجارد ، بالإشارة إلى إن الأكاديميين الغربين اليوم يؤكدون على إن هيلدجارد قد ربطت ربطاً قوياً بين الموسيقى وجسم المرأة (أنظر : بروس هولسنكر ؛ الجسم والصوت / منشور في مجلة المرأة في الثقافة والمجتمع / العدد 19 خريف 1993 ، ص ص 92 – 125) . كما إن في الشعر والموسيقى في سمفونية هيلدجارد ، إهتمام برغبة المرأة . ومن هذا الطرف تم ربط هيلدجارد بتاريخ الخطاب النسوي (الفمنستي) (أنظر : بروس هولسنكر ؛ الموسيقى ، الجسم والرغبة في ثقافة العصور الوسطى / نشرة مطبعة جامعة ستانفورد 2001 ، ص ص 123 – 135) .

محاولة هيلدجارد في البحث اللنكوستي / فلسفة اللغة

  حال المتصوفة هيلدجارد شبيه بحال كل رواد الحركة الصوفية ، تطلعوا إلى إصطناع لغة خاصة بهم ، يتحدثون بها دون خوف من العامة ورجال السلطة . ولعل القارئ لتاريخ التصوف الإسلامي ، يلحظ إن رجال التصوف يتعاطون لغة خاصة بهم ، خصوصاً في الطعام ، وتسمية المأكولات ، وبالتأكيد لا يعرفها أحد سواهم ، وإن معرفتها جاءت من خلال نصوصهم . أما حال المتصوفة هيلدجارد فكانت رائدة في مضمار لغة خاصة للراهبات ، وذات أبجدية خاصة ، مما جعلها أن تكون رائدة في مضمار النكوستيات (فلسفة اللغة أو منطق اللغة / فقه اللغة) .

  يطلق الباحثون على اللغة التي إخترعتها المتصوفة هيلدجارد إصطلاح اللغة الجديدة (الغريبة) وباللغة اللاتينية تسمى لنكو أكنوتو (للتفاصيل أنظر : سارة هايلي ؛ هيلدجارد بنجن ولغتها الغريبة : نشرة وترجمة ومناقشة / طبع ماكميلان ، نيويورك 2007) ،  وهي تعني لغة الألغاز .  ومن زاوية النكوستك ومنطق اللغة ، فإن جميع اللغات هي لغات ألغاز أو جاركن بالنسبة للغير العارف بها ؛ وهي مثل لغات التخاطب اليومي أو اللغات العلمية مثل لغة الفيزياء ، الكيمياء ، الرياضيات والبايولوجيا .. فاللغة الصينية بالنسبة للعربي هي لغز أو مجموعة ألغاز ، والحال بالنسبة للغة الكيمياء بالنسبة لطالب التاريخ واللغة العربية . ولكن اللغة الصينية بالنسبة للصيني هي جهاز لغوي متين ، يُحقق أغراص التفاهم ونقل المعلومات . والحال كذلك بالنسبة للغة الكيمياء  بين علماء الكيمياء .. (تناول الدكتور الفرحان في كثير من أبحاثه وكتبه المنطقية مفهوم اللغة كجهاز يتألف من إشارات ورموز ، وهذه الرموز والإشارات تكون على هيئة ألغاز محيرة ، وغير مفهومة للمجموعة التي لا تمتلك معرفة بها ، وهناك قواعد تحكم الإشارات .. وعلى هذا الأساس فإن المجموعة التي تتداول هذه اللغة أو الإشارات تكون عارفة بسرها وملتزمة بقواعدها إذا تطلعت إلى إنجاز وظيفتها الإجتماعية وهي التفاهم ونقل المعلومات . وبخلاف ذلك فإن جميع اللغات تكون ألغازاً) .

   والحقيقة إن إصطلاح لنكو أكنوتو ” اللغة الجديدة “ يدل ويشير إلى فعل الإختراع والأصطناع لجهاز تخاطب بين هيلدجارد وبين الراهبات فقط . وهيلدجارد لم تقف عند إختراع كلمات من اللغة اللاتينية ومنحها معاني وإستخدامات جديدة . وإنما تجاوزت ذلك وإخترعت ألف باء لهذه اللغة الجديدة . ونحسب من باب فلسفة اللغة إنها ليست بالمهمة اليسيرة في مضمار النكوستيات ، وهي تحتاج إلى جهود علماء عديدين ومن أجيال مختلفة حتى يصل هذا الإنجاز إلى لغة يمكن تداولها في الأستعمال والتفاهم ونقل المعلومات .

   ومن هذا الطرف يمكن القول إن هيلدجارد تمتعت بقوة ذكاء عالية ، مكنتها من التفكير والتخطيط لإنجاز هذه المهمة بنفسها ومن خلال تعاون بناتها الرهبات . وفعلاً فقد أصبحت اللغة الجديدة جهاز لغوي خاص للراهبات . وفي هذه اللغة شواهد على رغبة هيلدجارد ببناء لغة فمنستية ، توفر سرية عالية بين الراهبات ، وتمنع الأخرين وخصوصاً الرهبان من إختراق جدار اللغة الجديدة ، ومعرفة ما يدور بين الراهبات ، وما يتطلعن إليه في مضمار علم وثقافة ولاهوت فمنستي .

  ولعل من المناسب أن نشير إلى إن بعض الباحثين الذين إعتنوا بتفكير هيلدجارد ،  ومنهم الأستاذ مارك إيثرتون قد نظر إلى لغتها الجديدة ، بأنها نوع من الألغاز (أنظر المصدر السابق ، ص 161) . ويعود هذا العمل النكوستي الذي أنجزته هيلدجارد إلى الفترة المتوسطة من حياتها المهنية ، والممتدة من عام 1151 وإلى عام 1158 . وبالتحديد قبيل أن تبدأ العمل بكتابها المعنون حياة الفضائل . وقد رتبت هيلدجارد كلمات لغتها الجديدة بطريقة هايراركل ، أي بإسلوب تراتبي يبدأ من الأعلى وإلى الأسفل ، وبالتحديد يبدأ من زاوية عقيدية دينية من الله وهبوطاً . ولذلك بدأت قائمة اللغة الجديدة بتعابير مثل الله ، الملائكة ، والإنسان .. وتنهي بأساء مثل الأشجار ، والنباتات ، والأعشاب والحيوانات ..

  وبالطبع إن هيلدجارد قدمت بحثاً لغوياً عالياً ، وهي تتطلع إلى بناء لغتها الجديدة ، فقد إستندت إلى اللغة اللاتينية لغة شارحة للغة لنكو أكنوتو . ومن طرف أخر كانت لغة لنكو أكنوتو ، هي جهاز لغوي شارح للغة اللاتينية . وقد تم إضافة اللغة الإنكليزية لغة ثالثة للشرح . أو الإعتماد على لغة لنكو أكنوتو جهازاً شارحاً لها . وهنا أقدم مثالاً من اللغات الثالثة مع ترجمة عربية مرافقة :

لغة لنكو أكنوتو         اللغة اللاتينية          اللغة الإنكليزية

أيكيونز (أي الله)        ديوز (أي الله)         كاد (أي الله)

أيجنز (أي الملائكة)     أنجليوز (أي الملائكة)  أنجلز (أي الملائكة)

 سيونز (القديس)        سانستيوس (القديس)    سانت (القديس)

ليونز (الفادي / المخلص)  سالفتور (الفادي)    سفير (الفادي)

ديولايز (الشيطان)        دايبولس (الشيطان)   ديفل (الشيطان)

أسبرايز (الروح)         سبرتيوس (الروح)    سبريتس (الروح)

إنومياز (الإنسان)        هومو (الإنسان)       هيومن (الإنسان)

(أنظر : هيلدجارد بنجن : كتابات مختارة ، ص 161) .

  وترى الباحثة بربارة نيومان المتخصصة في كتابات هيلدجارد بنجن ، بأن نصوص كتاباتها تكشف عن شكل محور من اللغة اللاتينية في العصور الوسطى ، وألف باء جديدة للغة الجديدة . وإن غرضها من إختراع اللغة الجديدة ، هو سعيها إلى التوحيد بين الرهبات (أنظر : بربارة نيومان : المدخل الذي كتبته لكتاب هيلدجارد معرفة الطرق إلى الرب (مصدر سابق) ص 13) . كل ذلك يدل بوضوح على نزعة هيلدجارد الفمنستية من إختراع اللغة الجديدة (وهو التوحيد بينها وبين بناتها الراهبات) .

   ويحسب الباحث مارك إثرتون ، بإن اللغة الجديدة ، هي لغة سرية ، إخترعتها كجهاز تخاطب بين الراهبات في دير القديس روبرتسبيرك ، وقد ورد مقطع من هذه اللغة في كتاب حياة الفضائل ، وهي لغة مقدسة . وكذلك فإن هيلدجارد قد تداولت هذه اللغة الجديدة في أغنية من أغانيها ، وبالتحديد في أغنية أهدتها إلى الكنيسة (وقد ترجمناها أعلاه) . المهم إنه في هذه الأغنية ، قدمت صورتين ، الأولى باللغة اللاتينية ، والثانية باللغة الجديدة لنكو أكنوتو . وهي القطعة المشهورة جداً ، والتي تقول فيها :

  وأنا يوحنا رأيت المدينة المقدسة ، القدس الجديدة ، وقد هبطت إلى الأرض من جنة الله ، حاضرة كعروسة لزوجها .. (أنظر : هيلدجارد بنجن ؛ كتابات مختارة ، ص ص 161 – 162) .

    يبدو لي إن هذه الأغنية من مساهمات هيلدجارد في التحريض الصليبي للجمهور المسيحي ، ومنه الألماني خاصة للتأهب لتحرير القدس من السيطرة الإسلامية ، والتي تزامنت مع عمل ناصحها برنارد ، الذي كان الموجه الديني للحملة الصليبية الثانية ، والتي فشلت فشلاً ذريعاً وخابت فيها كل أماني برنارد ، وربما أمال هيلدجارد كذلك  ، والتي إنتهت في العام 1149 إلى كارثة ، حيث أصبحت مدينة القدس كاملة تحت سيطرة صلاح الدين الآيوبي (1137 – 1193) والتي بدأت بمعركة حطين عام 1187 والتي دحر فيها قوات الصليبيين وشتت قواتهم (أنظر للتفاصيل : السير هملتون جب ؛ صعود صلاح الدين / منشور في كتاب تاريخ الحروب الصليبية : السنوات المئة الأولى ، لندن 1969 ، ص ص 563 – 589) . وكان عمر المتصوفة هيلدجارد 51 عاماً .

تعقيب

  بداية تعقيبنا توضيح ، نرغب إن يعرفه القارئ الكريم ، وهو إن مذهبنا في الحياة والتفكير يتعارض والتجارب الصوفية وما يدور حولها من إنكسارات وعلل نفسية متوطنة في اللاوعي ، ومن ثم الهروب إلى عالم عال تحصل فيه المشاهدة للذات الإلهية أو مشابهة لذلك من طرف . والطرف الثاني هناك الكثير الكثير من الفبركات اللاهوتية اللاحقة التي إمتزجت في الكتبات التي تناولت حياة المتصوفة الإلمانية هيلدجارد بنجن . ونحن لا نبغي فحص الفبركات اللاهوتية ، فهذا أمر نتركه لرجال اللاهوت الذين يسمحون لأنفسهم اصطناع الفبركات على حساب الحقيقة التي يتطلع إليها جمهور المؤمنين ، والتي تكون الفيصل بين المسيح الحقيقي والمسيح الدجال (الأنتي كرايست) . ولكن هذا حالهم على الدوام لأن غرضهم الربح المؤقت ، للمتاجرة الدينية القائلة : إن ديني هو دين الصدق ، وإن الأديان الأخرى مجرد أساطير منتحلة ، وإن مذهبي هو خير المذاهب ، وإن المذاهب الأخرى هي مجرد بدع وأباطيل وباطنيات

   والمهم في مذهبنا ، إننا وجدنا في حالة المتصوفة هيلدجارد ، تمرداً على سلطة رجال الدين وإحتكارهم لدائرة اللاهوت ، فكانت صوتاً فمنستياً إعتمدت طريقة الكشف والمشاهدة الصوفيين ، فبزت بها كل رجال عصرها من اللاهوتيين ، ووضعتهم في إمتحان ومحنة ، فإستسلموا أخيراً لسلطتها ، وكاتبوا البابا الذي طلب منها الإستمرار في تجربتها والكتابة ، ومشاركته في الجديد من الرؤيا .    

صحيح ُ إن رجال اللاهوت المسيحي عملوا بجد على إحتكار سلطة الكنيسة ، والإمساك بقوة بمفاتيح العمل في دائرة اللاهوت المسيحي في أيديهم ، ورفض للمرأة من خوض هذا المضمار . وكانت أصوات المقاومة مدعوة من الكرسي البابوي . ولكن حدثت إستثناءات ، فرضتها شخصيات فمنسيتية مسيحية شجاعة ، فتمكن من إختراق جدار الحصار الكنسي ، وسجلن أسماءهن رموزاً وأصوات نسوية في قوائم مضمار اللاهوت المسيحي الفمنستي (النسوي) . ولم يمضي وقت طويل ، فقد تم الفاتيكان بالإعتراف بهن نساء قديسات شأنهن شأن الرجال القديسون .

 وحالة المتصوفة هيلدجارد مثال متميز ، وشاهد على صوتها الفمنستي ، الذي حمل الفاتيكان إلى الإعتراف بقداستها . وفعلاً فقد إنتزعت في حياتها ألقاب دينية عالية من حشود المؤمنين ، ومن درجات دينية متنوعة ، مثل القديسة هيلدجارد ، ونبية الراين . ومن ثم جاء الأعتراف بقداستها متأخراً جداً جداً وذلك بسبب جندرها (النسوي) . فقرر الفاتيكان البدأ بعملية منحها لقب القديسة ودرجة دكتوراه كنيسة ، ووصلت العملية إلى نهايتها . ومن المؤمل إن يمنحها البابا الحالي بندكت في 7 إكتوبر القادم 2012 هذا الإعتراف المتأخر ، وستكون دكتور كنيسة رقم 35 . وبالمناسبة هذا اللقب حصل عليه القديس توما الإكويني من قبل كذلك .

   ولعل المهم في الحركة النسوية داخل الأديرة المسيحية ، هو صعود الأصوات الحرة نتيجة لنهضة القرن الثاني عشر ، وهي النهضة التي عاشت في أحضانها المتصوفة والموسيقية هيلدجارد . فقد تمكنت بعد موت معلمتها الراهبة جوتا ، من أن تكون رئيس الدير ، ومن خلال عملية أختيار وترشيح حر لأول مرة ، ومن قبل معظم الراهبات . ونحسب إنها إستفادت من الترجمات اللاتينية للتراث العلمي العربي الذي حدث في القرن الثاني عشر ، وتشهد على ذلك نصوصها في مضماري الصحة والعلاج . صحيح ليست هناك إشارات واضحة للمصادر العربية التي إقتبست منها (أو من ترجماتها اللاتينية أو العبرية التي ترجمت إلى اللاتينية لغة هيلدجارد قراءة وكتابة) . إلا إن القارئ للنصوص العربية الطبية وفي العقاقير والوصفات الطبية ، يشعر بقناعة بأن النص العربي الطبي والنباتي العلاجي ، مستبطن ومتخفي وراء نصوص هيلدجارد بنجن .

 الأمر الأخر الذي نود إن نناقشه قبل مغادرة هذا البحث ، وهو بيان مكانة المتصوفة هيلدجارد في مضمار نظرية طبية – سايكولوجية ، وهي نظرية الأخلاط أو المزاج ، وهي نظرية يونانية جذورها تصعد إلى إبي الطب اليوناني ” أبقراط ” والتقليد الطبي اليواني النازل إلى جالينوس ، والتي إرتبطت بنظرية الأخلاط الأربعة بشخصه . إن المهم الخطير في مسألة الأخلاط أو المزاج هو :

أولاً – إن نظرية المزاج أو الأخلاط الأربعة قد تبنتها المتصوفة الألمانية في كتابها الفيزيكا أو الصحة والعلاج .

ثانياً – إن جميع الدراسات التي تناولت هذه النظرية الطبية – النفسية عند هيلدجارد ، أشارت إلى إن مصادرها لم تكن يونانية ، وإنما شرقية (بالطبع مع الأسف إن الأكاديميين الغربيين الذي يدعون الموضوعية ، يخلطون الأوراق والإصطلاحات بقصد ، وذلك عندما يواجهون الحقيقة ، وإن هذا التراث ليس شرقياً ، وإنما عربياً) . أرجو التأكيد كما يقولون إن مصادرها شرقية .

ثالثاً – أشرنا سابقاً ، ونعيد إنتاج ذلك مرة أخرى ،  وهو إن هليدجارد بنت القرن الثاني عشر ، وإن لغتها وثقافتها كانتا لاتينيتين . وإن هذا القرن شهد ترجمة واسعة للتراث العلمي العربي المجلوب إلى أسبانيا (الأندلس) من الشرق العربي ، نؤكد على إن ترجمته قد تمت من العربية إلى العبرية أولاً ، ومن العبرية إلى اللاتينية ، ومن ثم من العربية مباشرة إلى اللاتينية .

رابعاً – بينا في أبحاث سابقة إن نظرية المزاج أو الأخلاط الأربعة للسيد جالينوس ، قد تدارسها العقل الطبي العربي ، وأثار الشكوك حولها ، وعمل تعديلات عليها ، فمثلاً ً:

1 – إن تجارب الرازي والزهراوي وإبن سينا تتناقض مع نتائج جالينوس .

2 – إن تجارب إبن الزهر وإبن النفيس تتناقض ونظرية الأخلاط الأربعة الجالينوسية (أنظر : محمد جلوب الفرحان ؛ حضور المنطق في الخطاب الرشدي / مجلة أوراق فلسفية جديدة ، العدد الخامس شتاء 2012) وهذه الشكوك والتعديلات كانت مودوعة في الكتب الطبية والعلمية التي تُرجمت في القرن الثاني عشر إلى اللاتينية ، لغة المتصوفة هيلدجارد . ماذا يعني كل هذا ؟ يعني شئ واحد ، وواحد فقط ، وهو إن مصادر هيدجارد في نظريتها في الأخلاط الأربعة ، ليست يونانية ، وهذا ما أجمعت عليه جميع الدراسات الغربية ، وإنما مصادر شرقية . وهذه المصادر الشرقية في جوهرها الحقيقي مصادر عربية تُرجمت في القرن الثاني عشر الميلادي ، وتوافرت للمتصوفة هيلدجارد بلغتها اللاتينية .

——————————————————————————

      

هذا المنشور نشر في Abelard and Heloise, Dr. NIDAA KHALIL, Dr.MOHAMAD FARHAN, Horswitha of Crandersheim, Philosophy and Woman, Philosophy of Language, فلسفة اللغة, قواعد النظام البنديكتاني, قراءة فمنستية, كتاب الأعمال الإلهية, كتابات المتصوفة - الفيلسوفة الألمانية هيلدجارد بنجن, مفهوم هيلدجارد للعدل والحب الإلهيين, مثابرة فمنستية في اللاهوت, مجلة أوراق فلسفية جديدة, محاولة هيلدجارد في البحث اللنكوستي / فلسفة اللغة, مركز دريد للدراسات, نشر مؤلفات إبن رشد بالعبرية واللاتينية, نضال هيلدجارد من أجل الإستقلال الفمنستي, نظريات الإخلاط في نصوص هيلدجارد ومصادرها العربية, هيلدجارد ونظرية الخلق, هيلدجارد وزميلتها التلميذة المتصوفة إليزابيث ساشونو, أعمال روزويث من زاوية فلسفية, الفلسفة والموسيقى, الفلسفة والمرأة, الفيلسوف الدكتور محمد جلوب الفرحان, الفيلسوف بيتر أبيلارد, الفيلسوفة إلويزا أرجنتيل, القديس أنسلم الكنتربري ومعارضته للحروب الصليبية, اللاهوت المسيحي الفمنستي, المتصوفة هيلدجارد وكتاب الكليات لإبن رشد ومصادر كتابها الفيزيكا, المتصوفة هيلدجارد والحروب الصليبية, المعلم فالمير وتعليم هيلدجارد على التأليف الموسيقي, المعلمة جوتا وتعليم هيلدجارد العزف على القيثارة, الإمبراطور فردريك بربروسا والحملة الثالثة للحروب الصليبية, البابا يوجينوس وقراره بمد الحروب الصلسبية إلى الأندلس, البحث في مؤلفات وموسيقى هيلدجارد, الجندر والتجربة الصوفية, الدكتورة نداء إبراهيم خليل, الشطح الصوفي والهرطقة, العدد السابع من مجلة أوراق فلسفية جديدة, برنارد كليرفوكس, تجريم أبيلارد وحرق كتابه, رؤية الحبيب / الحضرة الإلهية, رابعة العدوية, رسائل هيلدجارد تضم 400 رسالة, رصيد التجربة الأبستمولوجية العلمية الإسكندرانية, سمفونية تناغم الإلهامات السماوية تتألف من 70 أغننية وأكثر من عشرين لحناً, صلاح الدين وقضية قتل المتصوف السهروردي وكلماته الدلالية , , , , , , . حفظ الرابط الثابت.