أطفال هيدجر : إنموذج من الكتب الأكاديمية التي إفتقدت إلى مشروعيتها

  الفلسفة : حُبُ الحكمة   والفيلسوف : مُحبُ الحكمة

والفيلسوف هو الذي رهن جُل حياته في البحث عن الحكمة

————————————————————————————–

(101)

إكتوبر 2011 

—————————————————————————————-

الفيلسوف

مجلة فلسفية إلكترونية

———————————————————————————-

HEIDEGGER’S CHILDREN

REVIWED BY

Dr. MOHAMAD FARHAN – PHILOSOPHER 

أطفال هيدجر*

إنموذج من الكتب التي إفتقدت إلى مشروعيتها الأكاديمية

الدكتور محمد جلوب الفرحان

رئيس قسم الفلسفة سابقاً  / رئيس تحرير مجلة أوراق فلسفية جديدة

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

*دفاع الدكتور محمد جلوب الفرحان عن مارتن هيدجر / فيلسوف فينومنولوجيا الحياة

———————————————————————————————————


تقديم 

إنطلق العديد من خصوم الفيلسوف مارتن هيدجر ونُقاده من العبارة التي صدرت عن طالبته الحبيبة الفيلسوفة حانا إرنديت ، ومفادها :

                              إن هيدجر ليس ألمانيا ، وإنما كان كاثوليكياً

 صحيح جداً إن غالبية الألمان على العقيدة البروتستانتية . ومن ثم تأتي العقيدة الكاثوليكية . ويبدو إن الفيلسوفة حانا كانت تلوح في عبارتها بأن الكاثوليك ، ومنهم هيدجر هم غرباء وليسوا ألمان . إنه إستنتاج غريب عجيب يصدر من فيلسوفة علمانية تنزُ كتاباتها بالقيم التي تنتصر للإنسان والحق والعدل . كيف حدث هذا ؟ وهي التي تردد دائماً ، ولم تنقطع عن ذلك حتى سلمت الروح إلى ربها . حيث كانت تقول :

                           إنني مُغرمة بشيئين : وهما هيدجر والفلسفة

  فعلاً لقد تعجبت كثيراً من عبارة الفيلسوفة حانا ، وذلك لأنها أقرب الناس إلى الفيلسوف هيدجر ، وهي العارقة بفلسفته وشخصيته وتفاصيل حياته . فهي تعرف :

1 – إن هيدجر جاء من عائلة كاثوليكية .

2 – إن هيدجر تخلى عن كاثوليكيته في سن مبكر . ”فقد قطع أولاً علاقته بالكاثوليكية وإلى الآبد وهو على أعتاب الجامعة ، وذلك إعتقاداً منه إن كاثوليكيته فشلت في منافسة الفلسفة . كما ويبدو ثانياً إن اللاهوت فشل هو الأخر في إيقاف إغراء الفلسفة . ففعلاً قد درس اللاهوت في جامعة فريبيرك للفترة الممتدة من 1909 وحتى 1911″ (الدكتور محمد جلوب الفرحان ؛ الفيلسوفة حانا إرنديت والفيلسوف الوجودي مارتن هيدجر / مجلة أوراق فلسفية جديدة / العدد التاسع / شتاء 2013) .

3- وفي عام 1915 فصخ هيدجر علاقته بخطبيته الكاثوليكية ماركريت وينر (أنظر : محمد جلوب الفرحان ؛ هيدجر والهيدجرية الجديدة / موقع الفيلسوف / نوفمبر 2012) 4 – تزوج من طالبته الفريدا بيتري ، وهي بروتستانتية وليست كاثوليكية .

5 – كشفت حفلات زواجهما عن إنفتاح عقلية هيدجر ، فقد تم الإحتفال في كنيسة كاثوليكية ، وتلاه بإسبوع الإحتفال في كنيسة بروتستانتية وحضرها والدي الفريدا (أنظر : محمد جلوب الفرحان ؛ الفيلسوفة حنا إرنديت .. (مصدر سابق)) .

  لكل هذه الحقائق أبين مع الأسف خطأ الفيلسوفة حانا في إنكار ألمانية هيدجر بالإعتماد على كاثوليكيته ، والتي تخلى عنها وهو على أعتاب الجامعة (وهو إبن العشرين ربيعاً)، ولم يعود إليها على الإطلاق . فأي كاثوليكية تتحدث عنها الفيلسوفة حانا ، والتي رددها بعدها خصوم هيدجر دون وجه من الحق والموضوعية .  

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

   بدأ هذا الكتاب حملته الهجومية على الفيلسوف الفينومنولوجي – الوجودي مارتن هيدجر (1889 – 1976) من العنوان ” أطفال أو أولاد هيدجر ” . ولهذا صنف المؤلف نفسه وكتابه في باب ” الترويج الذي قاده هابرمس منذ أكثر من خمسة عقود ضد صاحب كتاب الوجود والزمن ” . وبالمناسبة إن المؤلف ” ريتشارد وليون ” هو في شكل من الأشكال حواري من حواري هابرمس / فيلسوف الجمهورية الألمانية الجديدة التي جاءت بعد تدمير الحلفاء لألمانيا (أنظر : ريتشارد وليون ؛ أطفال هيدجر ، نشرة مطبعة جامعة برنستون 2001) حيث قال في كلمات الإهداء :

  إلى يورغن هابرمس : إعجاباً وإعترافاً

 إذن من الإهداء إنحاز المؤلف إلى البروفسور هابرمس ، الذي إنضم في شبابه إلى ” منظمة شباب هتلر ” وذهب مقاتلاً إلى جبهات الحرب ، وقاتل جيوش الحلفاء . هذه حقيقة معروفة وموثقة لم يتحدث عنها هابرمس ولا حواريه ريتشارد وليون . أما هيدجر فقد كان رجل مدني إنظم إلى الحزب النازي وهذا خياره وأيد سياسات هتلر ، ودفع الثمن غالياً بمنعه من التعليم الجامعي من قبل قوات الإحتلال الفرنسي . ولكن هيدجر لم يذهب مقاتلاً مثلما فعل هابرمس .

       والحقيقة إن المؤلف كشف في المقدمة عن إنحيازه لهابرمس ، حيث قال بالحرف الواحد :

  أهدي هذا الكتاب إلى يورغن هابرمس ، والذي قابلته قبل عشرين عاماً في جامعة براكلي ، حيث قدم فيها سلسلة محاضرات ، والتي نشرت فيما بعد بعنوان نظرية الفعل التواصلي (أطفال هيدجر ، ص 15 من المقدمة) .

 إذن واضح هدف الكتاب وهو الوقوف مع حملات هابرمس الترويجية ضد فيلسوف كبير تركت فلسفته أثراً قوياً في مضمار فلسفة القرن العشرين وتحول كتابه الوجود والزمن (1928) إنجيلاً فلسفياً لحركات الوجودية بمنازعها المتنوعة . في حين إن مؤلفات هابرمس هجرت مضمار الفلسفة وتحولت إلى خطاب سياسي مُدثر بنظريات إجتماعية مستفيدة من ماكس فايبر ، ومستبطنة للكثير من الكانطية والكانطية الجديدة ، وفشل في إنشاء نزعة فلسفية في الأبستمولوجيا والإنطولوجيا ، وتعثر كثيراً في مضمار الأكسيولوجيات ، لذلك وجد الطريق الوحيد هو تهشيم صورة فيلسوف كبير ممتحن حاله مثل حال جميع الألمان الذين لا حول لهم في مجابهة طاغية كبير مثل هتلر ولا حول لهم في مجابهة قوات الحلفاء ووقف زحفهم الهادف تدمير كل شئ في ألمانيا  ، وهابرمس فضل يومها ، وهذا هو خياره أن ينخرط في منظمة شباب هتلر ويذهب متطوعاً للقتال في جبهات القتال ضد قوات التحالف وبالطبع من بينهم أمريكا التي ستفتح حضنها الدافئ للبروفسور هابرمس …

وهيدجر رجل مواقف فقد قبل إنتخابه  رئيسا للجامعة وألقى خطابه الذي أيد النظام النازي . ألا إنه بعد ثمانية أشهر من رئاسته إلى الجامعة تقدم بإستقالته ، وبالتحديد في عام 1934 . وسببت مواقفه من الطلبة النازيين وإيقافهم من حرق الكتب عن اليهودية والمفكرين اليهود حساسية عالية فيها الكثير من الشكوك حول هيدجر . كما إن هيدجر عرض نفسه للخطر عندما ساعد طلبته من اليهود من أمثال كارل لويث وكذلك بعض الأصدقاء اليهود من أمثال إليزابيث بلوكمان في الهروب من ألمانيا . وهذا الحقيقة الدامغة هي التي حملت مؤلف الكتاب أن ينظر إليهم أطفالاً لهيدجر . لأن مواقفهم المخلصة للفيلسوف هيدجر تجعل من حجة تأليف الكتاب برمتها مردودة .

تأمل أكاديمي حول عنوان أطفال هيدجر

   بداية نحسب إنه من المفيد أن  نُذكر القارئ بأن المؤلف ريتشارد وليون ، هو بروفسوراً في التاريخ  ، وكان مطالباً ومسؤلاً في توضيح المقصود من العنوان وأهدافه في إنتخاب العنوان . ولكنه فشل فشلاً كبيراً وفضل الصمت ولم يقل لنا شيئاً ، وبالتحديد فيما يخص المصادر التي إستلهم منها عنوان كتابه : أطفال هيدجر . ورغم هذا الإهمال من قبل بروفسور التاريخ ، وجدنا بسهولة إن هناك مصدرين :

الأول – التراث اليهودي الديني ، وخصوصاً التوراة ، التي كثيراً ما تتحدث عن أطفال إسرائيل أو أبناء إسرائيل .

الثاني – مصدر أخر تداولته رواية بروفسور التاريخ في كتابه هذا ، وهذا المصدر جاء جاء إليه منقولاً في رواية الفيلسوف كارل ياسبرز ، الذي عاش المحنة مع الحزب النازي ، حين هددته السلطات النازية بالمحرقة ، وهو المسيحي وزوجته اليهودية . ورغم صداقة أكاديمية عميقة مع هيدجر ، ورباط روحي وفلسفي وجودي ، تنكر لهيدجر عنما سأله الأخير ليزكيه أمام قوات الإحتلال الفرنسي التي منعته من التدريس عام 1946 ، ومن ثم طلبت منه في العودة بشرط تزكية من زميل أكاديمي له . فكانت محنة وجودية وأكاديمية وإنسانية للطرفين ، هيدجر والزميل ياسبرز . والذي وقف معه هيدجر عندما قاد الفيلسوف الكانطي هنريخ ريكارت (وهو أستاذ هيدجر) حملة التشكيك في إمكانيات ياسبزر العلمية والأكاديمية في رئاسة قسم الفلسفة . نقول إن عنوان الكتاب جاء في طرف نقلاً من عبارة عالم الإجتماع الألماني ماكس فايبر (1864 – 1920) والتي أعاد صياغتها زميل هيدجر ياسبزر في تقريع هيدجر: ” الأطفال هم الذين يلعبون بعجلة التاريخ … “ (أطفال هيجر ، ص 173) . 

    ونحسب إن مسألة العنوان لم تنتهي عند المصادر ، وإنما هي أعقد من ذلك بكثير . ولذلك فضلنا وضعها في الجوانب الآتية :

أولاً – إن الكتاب ظهر في عنوانين فرعين مختلفين ، مما يدل ذلك على حيرة المؤلف وتردده في إنتخاب العناوين الإعلامية التي تجذب القراء

ثانياً – العنوان في النشرة الأولى كان : أطفال هيدجر : الفلسفة ، ضد السامية والهوية اليهودية الألمانية . ويبدو إن هناك من المؤلفين المتمرسين وأصحاب حرفة الكتابة قد بينوا لريتشارد وليون التناقض المفضوح في عنوان كتابه ، وهو إن الفلاسفة الأربعة = أطفال هيدجر هم يهود ألمان أقحاح ، فكيف ينطبق عليهم عنوان ضد السامية . وإن في العنوان تركيز على نقد أطفال هيدجر اليهود . وحرف النقد واللوم من هيدجر إلى أطفاله اليهود ، ومن أطفاله اليهود إلى هيدجر. وفي هذا خسارة إعلامية إضافة إلى كشف مفضوح لغياب الموضوعية الأكاديمية ومجانبة الحقيقة .

ثالثاً – ولهذا نحسب إن هناك نصيحة جاءت من أحباب ريتشارد الأكاديميين وأصحاب الحرفة ، فطالبوه بتعديل في العنوان ، وفعلاً إستجاب ريتشارد وظهر التعديل في بقية نشرة الكتاب ، وكان العنوان الجديد : أطفال هيدجر : حانا إرنديت ، كارل لويث ، هانز جونز وهربرت ماركوز .

رابعاً – وبالطبع  إن بروفسور التاريخ  لم يكن مهتماً بالموضوعية الأكاديمية والنزاهة العلمية ، وإنما كان هدفه الرئيس حفر في أوراق ماضي محزن للجميع ، وفيه مسؤلية يتحملها الجميع ، وبالتأكيد سببت أضراراً موجعة للفيلسوف هيدجر الغائب عن هذه الدنيا لأكثر من ربع قرن (وهو حد بين موت هيدجر عام 1976 وتاريخ تأليف كتاب أطفال هيدجر عام 2001) وحرف ذهنية القارئ للتفكير في ماضي مؤلم تتوزع مسؤليته على أطراف عالمية ومؤسسات كنسية كانت شاهد على ما يجري من تعذيب وتصفيات لشعوب وفئات لا تقتصر على اليهود ، فقد كان ضحايا الهولكوست ، جماعات من النور (الجبسي / الكاولية) وشخصيات كاثوليكية والمثليين ..

   وبالمناسبة إن اليهود عندما فروا من ألمانيا غلقت أمريكا وكندا موانيئهما بوجههم وظلوا في سفنهم  في البحر ، فعانوا من النظام النازي وعانوا من جوع وخوف في البحر لا أحد يمد العون لهم . إن القصة يجب أن تقرأ بكاملها وليس بإنتخاب أجزاء وتوجيه اللوم على الفيلسوف هيدجر الذي كان هو الأخر ضحية . وقد قال الرجل لقوات الإحتلال الفرنسي بعد إن منعوه من التدريس في الجامعة ” إنها مجرد متابعة لغريزة القطيع ” . ثم ردد كثيراً في جلساته الخاصة والتي يعرفها طلابه من اليهود الذين يعتبرهم بروفسور التاريخ  ريتشارد وليون أطفال هيدجر . إن حالة تورطه في الحزب النازي ومدح نظام هتلر  ” هي من إشد حالات الغباء في حياته ” .

خامساً – قلنا إن العنوان الرئيس في النشرة الثانية أطفال هيدجر . ولكن هناك عنوان فرعي يكشف بصورة مكشوفة أسباب تأليف الكتاب . وهذا العنوان الفرعي : حانا أرنديت ، كارل لويث ، هانز جونز وهربرت ماركوز .

الحقيقة إن هؤلاء فلاسفة كبار يا أستاذ ريتشارد وليسوا أطفال هيدجر . وقد شكلوا مدرسة فلسفية كبيرة في القرن العشرين ومؤلفاتهم منشورة بصورة واسعة حتى في بلدهم الأول ألمانيا وتلاميذهم يتوزعون المعمورة . وعلى خلاف تقويم البروفسور ريتشارد أطلقتُ على مدرستهم إصطلاح فلسفي دال ، وهو الهيدجرية الجديدة (أنظر : الدكتور محمد جلوب الفرحان ؛ الهيدجرية الجديدة / مقال جاهز للنشر / ظهر هامش منه في كتابنا : الفيلسوفة الأمريكية الفمنستية حنا أرنديت / وهو كتاب مسلسل / ظهر الجزء الأول منه في العدد الثامن من مجلة أوراق فلسفية جديدة ، خريف 2012 وستستمر المجلة بنشر أجزاء منه في كل عدد) .

   المسألة الموجعة إن هؤلاء الفلاسفة وعدد أخر من أعضاء المدرسة الهيدجرية الجديدة كلهم يهود ، وإستمروا في علاقتهم مع هيدجر ، وإنهم فهموا موقفه السياسي في فترة صعبة عاشها الشعب الألماني بمختلف شرائحه في محنة كبيرة . وهذه المسألة هي التي حملت المؤلف أن يكتب كتابه مهاجماً هؤلاء الفلاسفة اليهود الذين ظلوا مخلصين لفيلسوفهم الروحي هيدجر في محنته ، والتي هي محنة كل الألمان . صحيح إن هابرمس ليس بيهودي وفضل العمل مع الحلفاء (وهذا ينطبق على ما أسماه طفل هيدجر هربرت ماركوز الذي عمل في قسم المخابرات الأمريكية خلال الحرب ضد هتلر، وكان مضطراً لأن الأمريكان دفعوا لهابرمس وماركوز رواتب عافية مجزية) .

 أطفال هيدجر ومؤلفه ريتشارد وليون  

   أول شئ أود أن أُذكر القارئ الكريم إن البروفسو ريتشارد وليون لم يتخرج من قسم الفلسفة ولم يكتب إطروحته في طرف من أطراف الفلسفة . وإنما أستاذ تاريخ . ولهذ ا فضلت أن أقرأ شيئاً من سيرته المتوفرة : فهو بروفسور التاريخ (وليس الفلسفة) إذن هو مؤرخ أولاً وليس فيلسوف . وهذه مسألة مهمة في جنس كتاباته والمبرر القوي لوقوفه مع هابرمس . وكان بروفسوراً للتاريخ في جامعة مدينة نيويورك – مركز الدراسات العليا ، وعمل هناك منذ عام 2000 . وهو معروف في سلسلة من الهجومات التي يُطلق عليها حسب رأينا الأكاديمي الفلسفي خطأ إعلامياً ” بالهجومات الإفلاطونية ” على نزعات ما بعد الحداثة . والأهم في بعدها السياسي – الفكراني ، خصوصاً في هجومه على مصادرتكوين فكر القرن العشرين (وهذه هي ضميمة النهج الهابرمسي (نسبة إلى هابرمس) ومن ثم حواريه المتشدد ريتشارد وليون) على الرمزين الفلسفيين الروحين للقرن العشرين كل من نيتشه وهيدجر . وريتشارد قبل ذلك كان بروفسوراً للتاريخ في جامعة رايس في هيوستن – تكساس . إن عناوين مؤلفات البروفسور ريتشارد ، تؤكد على إنها عناوين إعلامية فيها ترويج وفيها إستفزاز . وأضع أمام أنظار القارئ قائمة من مؤلفاته :

1 – والتر بنجامين : جمالية الفداء (1982) ويبدو لي إن هذا الكتاب كان من بواكير كتاباته . وبنجامين هو واحد من أعضاء مدرسة فرانكفورت النقدية / ومشهور في كتاباته كفيلسوف للتاريخ . وقد إنتحر في باريس بعد إن فر إليها من ألمانيا ، وقبيل أكمال معاملة ترتيبات سفره إلى أمريكا (أنظر : محمد جلوب الفرحان ؛ مدرسة فرانكفورت النقدية / منشور في مجلة أوراق فلسفية جديدة / العدد السادس ، ربيع 2012) .

2 – سياسات الوجود : الفكر السياسي لمارتن هيدجر (1990) .

3 – زوبعة هيدجر : القارئ الناقد (إشراف) (1991) .

4 – حدود النقد الثقافي : مدرسة فرانكفورت ، الوجودية وما بعد التركيبية (1992) .

5 – كارل لويث ، مارتن هيجر والعدمية الأوربية (إشراف) (1995) .

6 – ليبيانث (في الإسطورة اليونانية تعني قصر المتاهة) : إستكشاف التاريخ النقدي للإفكار (1995) . وبعد هذا الكتاب ظهر كتاب أطفال هيدجر (2001) .

7 – إغراءات اللامعقول : الرومانسية الفكرية مع الفاشية من نيتشه وحتى ما بعد الحداثة (2004) .

8 – هربرت ماركوز : الهيدجري الماركسي ، مؤلف مشارك (2005) .

9 – مدرسة فرانكفورت (2006) .

10 – رياح من الشرق : المفكرين الفرنسيين وميراث حركة الستينات (2010) .

  أما كتاب أطفال هيدجر ، فقد تألف من مقدمة ، وتمهيد وستة فصول ، وملحق ونتيجة وملاحظات وفهرست . وتكون الكتاب بمجمله من 276 صفحة . ونحسب من الأهمية في الإهتمام بتاريخ كتاب أطفال هيدجر ، وبالطبع إن كاتبه مؤرخ وليس فيلسوف ، إن نخبر القارئ بأن بعض مواد وفصول هذا الكتاب قد نشرت على شكل مقالات ، وخصوصاً الفصل الخاص بالفيلسوفة الهيدجرية حانا إرنديت ، والفصل الخاص بالفيلسوف الهيدجري هانز جونز . وكان البروفسور ريتشارد صادقاً وأميناً على تلك الحقيقة الخاصة بتاريخ الكتاب ، فأخبر القارئ في مقدمته بهذا الحال (ص 14) .

  في حين جاء التمهيد بعنوان مُركب من عنوانين ؛ الأول عنوان كوج هيجر ، والثاني مفردة ” الذاكرة الميتة ” وهو عنوان قصيدة الشاعر اليهودي بول كلين  (الذي زار هيدجر في صيف 1967) ، وهو من الناجين من محرقة النازيين ، والذي زار هيدجر بعيد الحرب ، وإلتقاه في كوخه الخشبي المطل على الغابة السوداء ، فكان عنوان التمهيد : تودنبيرك (عنوان بيت هيدجر الخشبي الذي إشترته له زوجته الفريدا) و الذاكرة الميتة (هي عنوان قصيدة كلين)(ص ص 1 – 3) وهي فعلاً ثلاثة صفحات فقط  .

   وتحدث الشاعر والفيلسوف في كثير من الأمور . وكان الشاعر يتطلع من زيارته إلى إعتذار الفيلسوف كما روج في الإعلام . إلا إننا نحسب غير ذلك فقد جاء الشاعر ليقف بقرب الفيلسوف الذي إختار مواقف الإنظام إلى حزب النظام  ومواقف تخفيف من تدمير الطلاب النازيين ووقف زحفهم لحرق الكتب والمكتبات ، ومواقف حماية لطلبته وأصدقائه اليهود . ونحسب إن كلاهما كان ضحية ، فالشاعر كلين كان ضحية النظام النازي وهيدجر كان ضحية مركبة ؛ ضحيةالنظام النازي ودول التحالف التي منعت الفيلسوف الوجودي من التدريس ومن المواد الغذائية له ولعائلته ، وكان طلابه النجباء ومنهم يهود يهربون المواد الغذائية له . فأي إعتذار يتطلعون إليه والفيلسوف هيدجر هو ضحية النظام الذي مال إليه ، وضحية دول الإحتلال التي دمرت بلده .

  ومن ثم وجه الشاعر الدعوة لزيارته وتبادلا الزيارات والأحاديث . وعلى هذا الأساس أحسب إن الحوار الإنساني الراقي بين الشاعر والفيلسوف جسد صورة تفاهم لا تحتاج إلى إعتذار من أفعال جلادي الإنسانية .

الفصل الأول : فصل غريب من ناحية البنية التركيبية . وأحسب كأكاديمي وكاتب متمرس في الكتابة لمدة أكثر من أربعين عاماً ، القول إن من أبسط الأمور في الكتابة هو تطابق العنوان مع محتوى الفصل . فمثلاً جاء عنوان الفصل الأول  الفلسفة ورومانسية العائلة . إن الذي حدث في كتاب أطفال هيدجر ، الفصل ، مدخل : الفلسفة ورومانسية العائلة . ومن ثم عنوان فرعي لاحق : مأزق الحوارية  (ص ص 5 – 10) . وفي الفصل حق وباطل . ولكن غاية المؤلف غير بريئة . وقد إتهم هيدجر بالإنحياز والوقوف مع النازية . فعاد في هذا الفصل ليسقط بصورة واضحة في دائرة الإنحياز والتصنيف الديني المقيت الذي لا ينتمي إليه الفلاسفة ، لأن دين الفلاسفة دين مختلف عن دين الأجداد والأمهات . وقد إعترف المؤلف بهذه الحقيقة . إلا إنه إستمر يعدد أسماء الفلاسفة ومعلميهم في الجامعات الألمانية الذين من إصول يهودية . هذه هي جوهر القضية التي لم يتمكن أن يدركها بروفسور التاريخ ، وهي إن الإنحياز الوحيد والدين الوحيد عن هيدجر وهوسرل وحانا وهانز وكارل لويث وماركوز هي الفلسفة . وفي هذا الطرف من الفصل وردت معلومات غير دقيقة عن الفيلسوف هيدجر في طرحها العام . فمثلاً في السطر ما قبل الأخير من الفقرة الأولى التي بدأ بها الفصل . يقول البروفسور ريتشارد ليون ” إن هيدجر لم ينشر شيئاً ، حتى ظهر عمله المميز الوجود والزمن عام 1927 ” (ص 5) .

  هذا الكلام غير صحيح بصورته الحالية ، والكلام الصحيح هو إن قائمة لمقالات هيدجرالغنية والمتنوعة ، قد ظهرت في مجلات عدة . فقد لاحظنا من خلال مراجعة تاريخ مقالاته ، إنه نشر قبيل تقديم مخطوطة كتابه الوجود والزمن في 8 أبريل 1926 إلى هوسرل في عيد ميلاده السابع والستين ، نقول نشر عشرات المقالات والمراجعات الفلسفية . منها ثلاثة مقالات في غاية الأهمية نشرها في مجلة الأكاديمي عام 1912 ، وهي على التوالي : ما درجات النجاح في دراسة أرسطو بالإعتماد على توما الإكويني ، المشكلة الحقيقية في الفلسفة الحديثة ، و البحث الجديد في علم المنطق .  ومنها مقالاته عن الفيلسوف كانط . وكانت واحدة منها بعنوان : كانط وأرسطو ، والتي نشرتها مجلة ألمانيا الكاثوليكية عام 1914 (أنظر : محمد جلوب الفرحان ؛ هيدجر والهيدجرية الجديدة / مقال منجز / سيظهر قريباً على موقع الفيلسوف) . وبعد عشر سنوات  وبالتحديد عام 1924 ظهر شرح مهم على كتابات هيدجر ، سجل فتح في الإهتمام بهيدجر عالمياً . قام به الفيلسوف الياباني هاجيم تانبي (1885 – 1962) في مقالته المشهورة : تحول جديد في الفينومنولوجيا : فينومنولوجيا الحياة عند هيدجر . وبالمناسبة إن الفيلسوف هاجيم تانبي هو من أعضاء مدرسة كايوتو (أنظر للإطلاع : ديفيد ديلورث ؛ الكتاب المصدر عن الفلسفة اليابانية الحديثة / نشرة مطبعة كرين وود 1998) .

  وعودة إلى الفصل الأول من كتاب أطفال هيدجر ، فإننا نواجه عنواناً فرعياً أخراً في هذا الفصل جاء يحمل دراما هيدجرية وعزاء لأطفاله الفلاسفة الأربعة . وكان العنوان سقوط هيدجر (ص ص 10 – 16) . ويبدو إن بروفسور التاريخ قد خلط الأوراق ، فسقوط هيدجر إدارياً وسياسياً لا علاقة له بإنجازاته الفلسفية التي كتب عنها اليابانيون والخاصة بالفينومنولوجيا الجديدة : فينومنولوجيا الحياة ، والوجود والزمن الذي وحده كاف لتخليد هيدجر . وكذلك مشكلة ميتافيزيقيا الأخلاق عند كانط . أقول هذه الثلاثية الفلسفية كافية لوحدها أن تجعل من هيدجر فيلسوفاً خالداً . وهذه الثلاثية تشكل الحاضر المجيد والمستقبل الخالد الذي لم يؤثر عليه سقوط سياسي زائل . وهذا ما فهمه طلابه الذين أطلق عليهم ريتشارد أطفال هيدجر وهم الهيدجريون الجدد الذين رفعوا راية هيدجر عالياً وذهبوا بها إلى شواطئ بعيدة في مضمار فلسفة القرن العشرين .

  وفي عنوان أخر في هذا الفصل جاء بعنوان التحول الهيدجري . ولعل المهم في هذا الطرف (والذي يُؤلم المؤلف ريتشارد : لأن هيدجر فاشي ونيتشه فاشي ) هو إهتمام هيدجر بالفيلسوف نيتشه ، الذي كرس هيدجر سنواته الأخيرة لفلسفة نيتشه . ولعل الطرف الذي فات بروفسور التاريخ أوتجنبه فعلاً ، هو مفهوم هيدجر للفن وعلاقته بنيتشه . ومعروف إن أبحاث نيتشة الجمالية شكلت موضوع إلهام لجيل كبير من الفلاسفة بدءً يهيدجر ورجال مدرسة فرانكفورت الذين كتب عنهم ليون في ثلاثيته : الأول بنجامين والتر : جمالية الفداء ، وهربرت ماركوز : الهيدجري الماركسي ، ومدرسة فرانكفورت .

   جاء الفصل الثاني بعنوان : الحوار اليهودي الألماني : محطات من التجاهل (ص ص 21 – 29) . وإذا وضعت نفسي في مكان البروفسور ليون من طرف ، والإفادة من التجربة العنصرية اللاإنسانية النازية لتخليت أولاً من مفردات هذه اللغة التي تنز بالمقابل من تصنيفات عرقية لاإنسانية ، وبالتحديد لفلاسفة من نمط جديد لا يعترفون بعقيدة الأمهات والأجداد التي فيها توظيف سياسي لكوارث لا تقل عن كوارث النازيين . على كل ما دمنا نراجع كتاب أطفال هيدجر ، فلنقبل عليه كما هو . يقول المؤلف في الصفحة الأولى من الفصل ، وفي السطور الأولى تعريفاً بالفصل : أطفال هيدجر هي حكاية الخبرة اليهودية الألمانية . والتي يُطلق عليها بحوليات (تواريخ) الخُداع اليهودي بتمثل  (إمتصاص) الهوية الثقافية الألمانية (ص 10) .  

   إذن هذه هي مشكلة المؤلف ريتشارد وليون وهي ليس مشكلة أطفال هيدجر أو حسب فهمنا هي ليست مشكلة فلاسفة الهيدجرية الجديدة على الإطلاق . هذا طرف من وهم ريتشارد وليون في الإحتجاج على سياسة تمثل الثقافة الألمانية ، وكون اليهودي الألماني مواطن ألماني أولاً وقبل أي شئ وهذا ما حصل لفلاسفة الهيدجرية الجديدة الألمان (من إصول يهودية بلغة البروفسور وليون) .

  والفصل سار في إتجاهين لهما خطورة على الكيان اليهودي كجزء من المواطنية الألمانية :

الأول – أصوات رفض التماثل للثقافة الألمانية

    وهذا التوجه بدأ سنوات عديدة قبل الحرب العالمية الأولى ، وخصوصاً في تحديات مارتن بوبر (1878 – 1965 قطع علاقته باليهودية وأصبح مفكراً علمانيا ، ومن ثم تحول ليكون محرر لصحيفة إسبوعية لحركة الصهيونية  .  غير إنه إنسحب منها ، وله كتاب مشهور ، يُنظر له على إنه جزء من التراث الوجودي ، وكان بعنوان أنا وأنت ، وظهر عام 1923 ، وقد ترجم إلى الإنكليزية عام 1937 ، للتفصيل أنظر : بامليا فيرمز ؛ بوبر ، نشرة دار بيتر هابلن للناشرين ، لندن 1988) . وهو التحدي الذي يجب أن يتخذ شكل نهضة يهودية ، والتي حددها بكلماته : بأنها ” بعث جديد لليهود من حياة جزئية إلى حياة كلية شاملة ” (ريتشارد وليون ؛ أطفال هيدجر ، ص 28) .

الثاني – النهضة اليهودية في جمهورية فايمر

  وأشار ريتشارد وليون إلى إن النهضة اليهودية الحقيقة ، كانت خلال سنوات جمهورية فايمر ، وإنتهت النهضة اليهودية إلى قدرها القومي المحتوم في الحركة الصهيونية . ولعل بروفسور التاريخ ليون ، يشير إلى ذلك في الصفحة الأخيرة من هذا الفصل ، وبالتحديد في إستشهاده بكلام الصهيوني مورتز كولدستين ، والذي دعا فيه اليهود عشية الحرب العالمية الأولى ، حيث قال : الدراما اليهودية ، والرواية اليهودية لم تُكتب بعد . إن خلق النموذج اليهودي الجديد – ليس في الحياة الواقعية  ، ولكن في الأدب ، وهو الأكثر أهمية في هذا المضمار … إذن مطلوب من الكتاب اليهود أن يعملوا بجد ونشاط (المصدر السابق ، ص 29) .

   ماذا كان رد فعل الألمان على هذه النزعة القومية اليهودية ، نزعة قومية ألمانية أشد منها ، تتوجت بصعود هتلر في الثلاثينيات (المصدر السابق) . وأول ما نشد تحقيقه هو حرق اليهود في معسكرات الإبادة التي بناها في عموم الأراضي التي أصبحت تحت سيطرته . ويبدو إن التاريخ شاهد على نهاية الحركات القومية في حروب مدمرة للذات والأخر . وتحول تاريخها الى روايات حروب القتل والدمار .

 أما الفصول الثالث والرابع والخامس والسادس ، فهي الفصول الخاصة بأطفال هيدجر ، وهم حانا إرنديت (1906 – 1975) ، كارل لويث (1897 – 1973)، هانز جونز (1903 – 1993) ، وهربرت ماركوز (1898 – 1979).

    وفي الفصل الثالث  الذي خصصه رتشارد ليون في الحديث عن حانا إرنديت ومن خلاله رتب هجومه على فيلسوف الفلاسفة مارتن هيدجر(المصدر السابق ، ص ص 30 – 69) .  لقد بين المؤلف إن مشكلة الفيلسوفة حانا إرنديت ، هي مشكلة تمثل أو تشرب الثقافة الألمانية مئة في المئة ، فقد ولدت في عائلة لم تُذكر في حياتها كلمة يهودي على الإطلاق . وهذا غير صحيح حتى وإن جاء على لسان حانا (المصدر السابق ، ص 39) . فمن الثابت إن والديها العلمانيين ، قد سمحا لها أن تذهب مع أجدادها كل سبت إلى المعبد اليهودي ، وكان صديق العائلة الحاخام اليهودي يزور العائلة ومهتماً بالطفلة حانا ، والتي أعلنت من جانبها  في إنها قررت أن تتزوج من الحاخام ، فعلقت والدتها بأن الحاخام سوف يُحرم عليك أكل لحم الخنزير (الهام) (أنظر : محمد جلوب الفرحان ؛ الفيلسوفة الألمانية الأمريكية حانا إرنديت / مجلة أوراق فلسفية جديدة / العدد الثامن خريف 2012) . هذا مثال على عدم دقة بروفسور التاريخ ريتشارد وليون . المثال الأخر الذي أسوقه من هذا الفصل والأمثلة كثيرة ، عندما تكلم عن كتاب الفيلسوفة حانا أرنديت الرائعة في مضمار الفلسفة السياسية المعنون الأنظمة الشمولية (أو الدكتاتوريات) والتي قارنت فيه بين الدكتاورية النازية والستالينية . وبروفسور التاريخ إعترف بمكانته في مضمار كتب الفلسفة السياسية في القرن العشرين . ولكن كعادته إنطلق منه لينتقد الفيلسوفة حنا ، ويشن هجومه على الفيلسوف هيدجر . فقال بالحرف الواحد كل ماقالته حانا صحيح فيما يخص الربط بين الدكتاتوريتين ؛ النازية والستالينية . لكن فاتها بأنفيلسوفها الحبيب هيدجر ، هو ” فيلسوف الديكتاتورية النازية ” (أنظر : أطفال هيدجر ، ص ص32 – 33) .

    صحيح إنه وجد في إطروحة حانا للدكتوراه التي أشرف عليها الفيلسوف الوجودي كارل ياسبرز ، والتي كانت بعنوان مفهوم الحب في فكر القديس أوغسطين ، مجالاً في إستغلال أراء حانا ضد أستاذها الحبيب هيدجر (أطفال هيدجر ، ص 42) . لكن فات بروفسور التاريخ مقالاً في غاية الأهمية ، كتبته حانا بعنوان هيدجر الثعلب ، والذي نشرته أولاً في مجلة الفكر في عام1953/ ترجمه إلى الإنكليزية روبرت وريتا كمبر / ومن ثم نشر في كتاب حانا الواسع الإنتشار :  مقالات في الفهم (أو في الفكر) (أنظر : حانا أرنديت : مقالات في الفهم (1930 – 1954) / نشرة الولايات المتحدة الأمريكية 1994 ، ص ص 361 – 362) والذي ستعقب عليه بمقال مقابل زوجة هيدجر الفريدا بيتري . وأحسب إن الفريدا لو ظلت حية لتصدت لهذا الكتاب بقوة وفندت دعاوي بروفسور التاريخ . لكنها رحلت من هذا العام عام 1992 .

  أما الفصل الرابع فقد ركز فيه المؤلف الحديث عن كارل لويث (أطفل هيدجر ، ص ص 70 – 100) . إن  مشكلة الفيلسوف الهيدجري الجديد لويث ، إضافة إلى كونه طفلاً من أطفال هيدجر ، فهو فيلسوف علماني (وفيلسوف عدمي بلغة ريتشارد) مُشايع لنبي العدمية نيتشه . وإنه إستبطن نفساً رواقياً في كتاباته للأزمة التي تمر بها أوربا . وقد فات على مؤرخ التاريخ ريتشارد بأن جميع مكونات الفكر اللاهوتي للآديان السماوية ، وخصوصاً الأديان الثلاثة : اليهودية والمسيحية والإسلام قد إستبطنت الكثير الكثير من الفكر الرواقي (ونحسب إن عدداً ملحوظاً من لاهوتي الأديان الثلاثة كانوا فعلاً رواقيون) فهذا ليس بعيب في تفكير الهيدجري لويث بل عنصر قوة في فترة تاريخية نحسبها كانت في إزمة إخلاقية .  وهو فوق كل ذلك جمع بين ” ماكس فايبر وكارل ماركس في كتابه المعنون من هيجل وحتى نيتشه والصادر عام 1932) (أطفال هيدجر ، ص 71) .

  إن مشكلة الفيلسوف الهيدجري لويث بمنظار الكاتب ريتشارد ، إنه سقط ضحية في ” محيط العدمية النيتشوية ” . يقول المؤلف واصفاً حال الفيلسوف لويث :

وهكذا فبالنسبة إلى لويث ، نيتشه هو نبي أوربا الإخلاقي ، ونبي العدمية الفكرية ، ونصيراً للإرادة الجذرية (الراديكالية) لقيم التأكيد الذاتي .. وفكر نيتشه ممزوج بفكر الحداثة الفاوستي . وفعلاً بعد موته في النصف الأول من القرن حدثت كل الكوراث التي تنبأ بها . ولويث مقتنع بأن مصطلح نيتشه ” العدمية النشطة ” قد ساعدت في تمهيد الطريق ” (اطفال هيدجر ، ص 75) .

  صحيح إن الفصل خاص بالهيدجري لويث . إلا إن هدف المؤلف شن هجمة من خلاله على هيدجر (وبالطبع على نيتشه كذلك) .  يقول لويث ما لا يُحب أن يسمعه المؤرخ ريتشارد :

 1 – ” إن الفلسفات الخالدة لكل من نيتشه وهيدجر قد تصالحت وعقدت معاهدة سلام (وبطرق مختلفة) بينها وبين مواقف العدمية الحديثة ” (أطفال هيدجر ، ص 78) .

2 – ” إذن  ، ورغم بصيرة لويث كمؤرخ للفلسفة ، وناقد لروح الحداثة ، يبدو إن التشويهات وإنحيازات المزاج الفلسفي لمعلمه هيدجر قد ظهرت على السطح ، وكانت أبعاد أساسية في تفكير لويث في مرحلة النضوج ” (المصدر السابق ، ص 79) .

3- ويختتم ريتشارد هذا الفصل بهجومه عل الأستاذ هيجر والتلميذ لويث على حد سواء ، فيقول : ” لقد فسر كل من هيدجر ولويث الحداثة بمعاني ” العقل الأداتي ” ، وتجاهلا بصورة أكيدة اوجه الحداثة التي لا يمكن إختصارها في حدود العقل الأداتي . وتعجلا فكتبا عن تقدم الأخلاق الكونية التي بالمصادفة فتحت الطريق أمام الديمقراطية والمنافع الإجتماعية .. ” (المصدر السابق ، ص ص 99 – 100) .

  وجاء الفصل الخامس ليلقي الضوء على الفيلسوف الهيدجري هانز جونز ، وهو رفيق العمر للفيلسوفة حانا إرنديت وتلميذ الفيلسوف هيدجر (المصد السابق ، ص ص 101 – 133)  . وهدف بروفسور التاريخ  شن هجوم على المعلم بشراسة وبالطبع على التلميذ الفيلسوف الهيدجري الجديد جونز المستهدف في الفصل . ولكن مع إختلاف ، فقد كان جونز شخصية متفردة ، فكانت شخصية مزدوجة التكوين (وهذا ما جعل جونز يختلف عن حانا ولويث في نزعتهما العلمانية أو على حد تعبير ريتشار يهود بلا يهودية) فقد كان مهتماً بالفلسفة ومرابطاً قوياً لدراساته في اللاهوت اليهودي . فقد كان حوارياً للفيلسوف هيدجر ، وحوارياً في اللاهوت للأكاديمي  رودلف بولتمان (1884 – 1976) . وفعلاً فقد كتب إطروحته بعنوان الدين الغنوصي ، وتحت إشراف هيدجر وبولتمان (أنظر : محمد جلوب الفرحان : هيدجر والهيدجريون الجدد / بحث منجز سيظهر على موقع الفيلسوف قريباً) .

  كان هذا الفصل مقالة عادية عرضت كتابات ومعاناة جونز ، وفيها القليل من النقد مقارنة مع أطفال هيدجر : حانا ولويث ، ولكن المؤلف تصدى في نص مهم من الفصول السياسية لكتاب جونز المعنون شروط المسؤلية ، فأشار إلى تبني جونز وجهة نظر كتاب تدهور الغرب (إسوالد إشبنجلر) ، وهي الوجهة التي تختلف بدرجات من وجهة نظر كل من إشبنجلر وهيدجر . ومثل كل رجال الثورة القومية الألمان ، جونز يفترض ” إن الديمقراطية الليبرالية ، تقع خارج إطار المستقبل ثقافياً وتاريخياً ” (أطفال هيدجر ، ص 125) . وهذا الكلام للفيلسوف الهيدجري جونز أغاض بروفسور التاريخ ريتشارد وليون .

  ونحسبُ إن حالة الوجع التي عاشها الفيلسوف الهيدجري الجديد جونز والخيارات الكارثية التي مر بها ، رجحت مواقف له بإتجاه الفلسفة وإتجاه إستاذه الفيلسوف هيدجر . فقد عاش بعيد صعود هتلر متشرداً في لندن ومقاتلاً في صفوف الجيش البريطاني ، ومشاركاً في القتال في تأسيس الدولة اليهودية في فلسطين ، ومن ثم عانى محنته شخصية مؤلمة تمثلت في جريمة قتل أمه في ألمانيا ، فقرر بكلماته أن يعود إلى ألمانياً فاتحاً . وفعلاً دخل إلى ألمانيا ببزته العسكرية البريطانية . وعاد إلى فلسطين وقطع علاقته بالحركة الصهيونية وتفرغ للفلسفة كلية . وبعد تدريس فصل دراسي في الجامعة العبرية ، هاجر إلى كندا ودرس في جامعة ميكل في أتوا ، ومن ثم إستقر في نيويورك في المدرسة الجديدة للبحث الإجتماعي مع زميلة العمر حانا إرنديت وكارل لويث .

  كل هذه الأمور حملته على ترك الفلسفة ، ومن ثم اللاهوت الذي نشط فيه في الفترة التي تعرف بما بعد الهولكوست (الإبادة / المحرقة) . فتركهما مشتغلاً في مضماري فلسفة البيئة ، فأصبح رائداً في حركة البيئة الألمانية . وفي مضمار أخلاق البايولوجيا فكان رائداً في دائرة أبحاث الأخلاق العلمية / البايولوجيا في أمريكيا (أنظر : محمد جلوب الفرحان ؛ هيدجر والهيدجريون الجدد (مصدر سابق)) .

  وتناول في الفصل السادس الفيلسوف الماركسي وتلميذ هيدجر هربرت ماركوز (المصدر السابق ، ص ص 134 – 172) ، وهنا وقع المؤلف في حرج ، فماركوز عضو من أعضاء مدرسة فرانكفورت ، ومن الجيل الأول للمدرسة (أنظر : محمد جلوب الفرحان ؛ مدرسة فرانكفورت النقدية وإتجاهاتها الفكرية / مجلة أوراق فلسفية جديدة / العدد السادس ربيع 2012 ، المحور المعنون الجيل الأول من مفكري مدرسة فرانكفورت) ، وهابرمس من الجيل الثاني . والمؤلف قد أهدى كتاب أطفال هيدجر إليه (إعجاباً وإعترافاً) . وهابرمس هو الناقد الشرس لهيدجر والنشط مع قوات الإحتلالالتيدمرت ألمانيا  ، وهو الذي يشعر أمام هيدجر بعقدة نفسية عميقة ، وهي إرتباطه بالنظام النازي حاله حال هيدجر وبصورة أكثر تطرفاً ، وبحالة لا شعورية هاجم هيدجر ، وللباحث المدقق في سيرة هابرمس ، يعرف جيداً إن هابرمس إلتحقبمنظمة شباب هتلر ، وتطوع مقاتلاً للدفاع عن النظام النازي ضد قوات الحلفاء وخصوصاً القوات الأمريكية . هذه هي عقدة هابرمس التي حملته على الهجوم على هيدجر ، الذي هو في الحقيقة الهجوم على هابرمس المقاتل في صفوف الجيش النازي (أنظر : محمد جلوب الفرحان ؛ الإشكال الفلسفي في فكر يورغن هابرمس / مجلة أوراق فلسفية جديدة / العدد السادس ربيع 2012) . إن هذا المرض النفسي وهذا الوهم النازي نقله هابرمس إلى تلميذه البروفسور ريتشارد وليون ، والذي جسده في كل صفحة بدءً من العنوان وحتى أخر سطر من النتيجة .

  بدأ الفصل بمشكلة منهجية وقع فيها المؤلف ريتشاد وليون ، وهي مشكلة تصنيف تفكير هربرت ماركوز ، ففضل وضعها في عنوان مُشكل بحد ذاته : هربرت ماركوز من الماركسية الوجودية وإلى الهيدجرية اليسارية . وماركوز في التقويم الأخير هو عضو من أعضاء مدرسة فرانكفورت النقدية ، التي إمتصت إصولها الفكرية من  مشارب متنوعة الهيجلية والماركسية ولوكاش وفرويد ، كما وإنفتحت على الكانطية وإستبطنت أشياء من الوجود والزمن للفيلسوف الوجودي الفينومنولوجي مارتن هيدجر . ويعرف الكاتب إن ماركوز كما صنفه هو واحد من أطفال هيدجر (ونحن قد تحفظنا على ذلك) . فكيف الأن تحول إلى هيدجري يساري . هذا ما أراده المؤلف وذلك لخلق مجال يمكن فيه إستثمار ماركوز في نقد ما يمكن الإصطلاح عليه بالأرثوذوكسية الهيدجرية.

  على كل درس هربرت ماركوز على يد هيدجر في فترة متأخرة زمنياً نسبياً عن فترة أطفال هيدجر الثلاثة : حانا ولويث وجونز ، على الرغم من إنه كان أكبر من حانا بثمانية سنوات ، فإنه بدأ دراسته بعدها مع هيدجر ، بحدود أربع سنوات (كانت دراسة ماركوز مع هيدجر من 1928 وهي سنة صدور كتابه الوجود والزمن ، وإستلامه رئاسة قسم الفلسفة وريثاً لأستاذه أدموند هوسرل ، وإستمر ماركوز تلميذاً لهيدجر حتى عام 1932 أي قبل عام واحد من التحولات الدرامية في حياة الشعب الألماني والبروفسور هيدجر) . هذا طرف من حيرة المؤلف ريتشارد وليون .  

      أما الطرف الأخر من الحيرة ، فإن المؤلف تورط في تداول إصطلاح جديد  ،وهو ” الماركسي الهيدجري ” (أطفال هيدجر ، ص 135) . ثم يعود المؤلف فيزيد الأمر أكثر حيرة ، حين يعلن ” إن ماركوز لم يقتنع على الإطلاق بكونه هيدجري ، رغم إهتمامه بفكر هيدجر ” (المصدر السابق) . هذا هو طرف من الرصيد الماركوزي الذي نشد المؤلف إستثماره ومن ثم تحريكه لنقد هيدجر . ونحاول هنا عرض بعض الأمثلة :

1 – يقول ماركوز برواية المؤلف ريتشارد وليون ” ماذا حدث بعد فشل الثورة (1921 ومقتل كارل ورفيقته روزا لوكسمبيرك) ؟ وهو سؤالنا الحاسم . بالتأكيد الوضع التربوي – التعليمي في ذلك الوقت ، والذي كانت في المشهد الأكاديمي هيمنة للكانطية الجديدة والهيجلية الجديدة . وفجأة ظهر الوجود والزمن ، والذي كان فلسفة واقعية حقيقية . فالكتاب كان يتحدث عن الحياة ، والوجود ، والأخرين ، والموت والعناية . لقد ظهر هذا الكتاب وكأنه يتحدث إلينا ” (المصدر السابق ، ص 136) .

2 –  وظف المؤلف من أجل الهجوم على هيدجر ، أجزاء من مقابلة عام 1971 أعلن فيها ماركوز عن فشل المحاولة الجامعة بين الماركسية والوجودية . حيث قال : ” أعتقد .. إن هناك بعض الترابط بين الوجودية والماركسية ، وذلك لكونهما يؤكدان بإصرار على التحليل الواقعي (الكونكريت) للوجود الإنساني الحقيقي ، والموجودات الإنسانية وعالمهما . ولكنني تحققت بأن واقعية هيدجر هي واقعية زائفة ، وواقعية كاذبة . ولذلك كانت في الحقيقة فلسفته هي نوع من التجريد الذي إنفصل وغادر الحقيقة ، شأنها شأن كل الفلسفات التي كانت لها هيمنة في الجامعات الألمانية (المصدر السابق ، ص 137) . وهكذا حقق المؤلف ريتشارد وليون غرضه وذلك بإستثمار واحداً من أطفال هيدجر في نقده والخروج على سلطته الأبوية حسب مصطلح المؤلف ” أطفال هيدجر” .

3 – يشرح المؤلف في طرف من الفصل تمرد الطفل ماركوز على سلطة الأب هيدجر ، فيرى إن ماركوز خرج على هيدجر في عام 1933 بعد إعلان هيدجر بمساندته للنظام النازي (وبالطبع القضية برمتها سياسية وليست فلسفية) . فكل شئ تغير بمنظار المؤلف ، ولم يبقى أطفال هيدجر أطفال ، ولا الأب هيدجر أباً روحياً لهم . حيث يقول المؤلف : ” ونتيجة لذلك ، نلحظ بإندهاش بأن الممالات للهيدجرية والتأثيرات الهيدجرية قد تلاشت وغابت تماماً من أعمال ماركوز الفلسفية في مرحلة النضوج ” (المصدر السابق ، ص 167) .

4 – في الفقرة الأخيرة من الفصل يتخلى ماركوز عن طفولته الهيدجرية (لأنها طفولة مخترعة بقلم المؤلف  كما قلنا سابقاً وهو إبن غير بار لهيدجر ، وهو مختلف عن طينة حانا ولويث وجونز) ويعود ماركوز مع المؤلف إلى مدرسة فرانكفورت وهذا منبته الأساس ليعمل مع قوات التحالف في دائرة الإستخبارات . ولنترك المؤلف ريتشارد يقول الحقيقة بلسانه دون رتوش : ” ونتيجة لكل ذلك ، فإن المنظرين النقديين صادقوا على وجهة نظرالماركسية التقليدية  في الديمقراطية ، التي هي المسار للديمقراطية الحقيقية ، أو كما نبه والتر بنجامين (وهو من أعضاء مدرسة فرانكفورت) فقال : ” مادام هناك إبن سبيل واحد ، فإن هناك إسطورة ” (المصدر السابق ، ص 172) .

  وقبل غلق صفحات كتاب أطفال هيدجر للأكاديمي ريتشارد وليون ، أود أن أقف على نتيجته (أطفال هيدجر ، ص ص 233 – 237) التي ختم بها كتابه . ففيها خلاصة موقفه الذي حملته صفحات كتابه البالغة 232 صفحة  . وقبل كل شئ أضع عبارة المؤلف التي بدأ بها النتيجة في متناول القارئ الكريم لأن فيها الكثير من حقيقة منهجه الغريب ، وأحاول للتبسيط تقسيمها إلى جزئين :

 1– فيها رد على زملائه المؤرخين الذين وجدوا في تخليه عن المنهج التاريخي ، معياراً غريباً دفع به إلى تعطيل المنهج التاريخي في فهم ما حدث في ألمانيا ، والشعب الألماني عامة ، وخيارات الفيلسوف مارتن هيدجر خاصة . يقول ريتشارد وليون بالحرف الواحد : ” بُعيد فترة قصيرة من إكمال دراستي المبكرة ” فكر هيدجر السياسي ” كتب عنها مراجعة ميشيل أبولافاي (أنظر : ميشيل أبولافي ؛ سياسات الوجود : فكر هيدجر السياسي / المجلة العالمية للفلسفة 1991) والذي قيم نتائج دراستي ، وتساءل عن درجات النجاح في تقييم تراث هيدجر الفلسفي بمعايير السياسات الديمقراطية . وأنا من طرفي لم أستخدم معايير غريبة ” (أطفال هيدجر ، ص 233) .

2 –  وفي رده على المنهج التاريخي الذي إستخدمه كاتب السيرة الذاتية للفيلسوف هيدجر ، الكاتب نولتي ، الذي رأى بأن ” إختيار هيدجر للإشتراكية الوطنية عام 1933 هو خيار صحيح ” . المسألة لم تنتهي عند المؤرخ الذي رفض المنهج التاريخي ، فأسس نتيجة على ” خيار هيدجر وألمانيا ” ، فقال : ” إن خيار هيدجر (وألمانيا) كان منحازاً بصورة متطرفة ضد مصالح نصف مليون (وبكلماته 500000)مواطن يهودي ألماني. إنه الخيار الذي وضع مستقبل أوربا في كارثة ” ( أطفال هيدجر ، ص 233).  إن ما أذهلني هو الرقم المتواضع لنفوس المواطنين اليهود الألمان (نصف مليون) الذي هو رقم قليل جدا جدا ، ولا يمكن قبوله بأي حال من الأحوال مع المتداول ” وهو إن هتلر ونظامه النازي أباد في معسكراته 6 مليون يهودي ” .

  أحسب إن المؤرخ مطالب بتقديم تفسير للقارئ حول ما خلقه من تناقض بين عدد المواطنين الألمان اليهود (نصف مليون) والثابت عند المؤرخين ، وهو ” إن هتلر أباد 6 مليون مواطن يهودي أوربي ” . ويبدو هنا إن المؤرخ ريتشارد وليون قد وقع في ” فخ اللاسامية ” وهي السُبة التي وجهها للفلاسفة اليهود الهيدجريون (أطفال هيدجر : حانا ، لويث وجونز وبدرجات أقل ماركوز) عندما وصفهم بأنهم ” يهود بلا يهودية مرة ، ولا ساميين مرة أخرى ” .

 وعلى هذا الأساس نناقش نتيجة المؤرخ الذي تخلى عن منهجه التاريخي ، وختار منهج مقصود منه تهشيم صورة فيلسوف كبير عجز عن قراءة فلسفته بمنهج فلسفي متوازن  

، فأشتغل على المواقف السياسية لفترة عصيبة عاشها الشعب الألماني بكل فئاته تحت مظلة النظام النازي الدكتاتوري  :

أولاً – إن الموضوع الذي شغل بال المؤلف هو نازية الفيلسوف هيدجر ، وليست فلسفة هيدجر وفلسفة أطفاله الثلاثة (حانا ، لويث وجونز) والتي حاول المؤلف أن يحاكم أطفال هيدجر على أساسها . أما الطفل الرابع هربرت ماركوز فأمره مختلف .

ثانياً – إن الكتاب يرفض بإصرار على دراسة فلسفة وفكر هيدجر على أسس ومعايير منهجية فلسفية . ويلح على دراسته في ضوء معايير الديمقراطية الليبرالية .

ثالثاُ – إن المؤلف في هذه النتيجة يُدافع عن معاييره الديمقراطية في تقويم سياسات هيدجر وأطفاله . ويُخبرنا بأن عدداً من المراجعين لكتبه حول هيدجر ، قد نبهوا إلى عدم سلامة ما أسموه ” بمعاييرنا الديمقراطية ” في تقويم التاريخ الألماني في فترة عصيبة جداً ، وهي الحقبة النازية ، وبالتالي فكر وفلسفة هيدجر وأطفاله .

رابعاً – لقد قلنا إن ماركوز ماركسي وليس هيدجري جديد . إلا إن المؤلف إختاره طفلاً من أطفال هيدجر ، وكان لغايات غير بريئة فهو لا يتناغم بفكره مع فلسفة أطفال هيدجر الثلاثة (حانا ، لويث وجونز) ، ولذلك إستغله لنقد الأطفال الثلاثة ، الهيدجرون الجدد . إن ماركوز زميل لهابرمس وعمل مع هابرمس في المدرسة الجديدة (النسخة الأمريكية لمدرسة فرانكفورت النقدية) للبحث الأجتماعي . ومؤلف الكتاب عارف بهذه الحقيقة . وهذه ضميمة هابرمسية إستبطنها المؤلف ريتشار وليون وإستغلها إستغلالاً نافعاً .   

  وفي الختام نختار العبارة الأخيرة من النتيجة والكتاب برمته والتي تكشف عن خواء منهجه الأكاديمي الذي إختاره في نقد هيدجر وأطفاله . يقول ريتشارد وليون :

 إن الفهم الوحيد لأطفال هيدجر ، هو إنهم ثمنوا إرتباطهم وعلاقتهم بالكارثة الألمانية التي برهنت على إمكانيتهم في إقامة العدل بالإعتماد على سلطتهم وميراثهم الفلسفي المعقد (المصدر السابق ، ص 237) .  

تعقيب ختامي

  من المضحك في القرن الواحد والعشرين هذا النمط من التفكير الشوفيني الذي يصنف الفلاسفة الذين لا علاقة لهم على الإطلاق بدين العجائز وأساطير الشتاء التي تُتلى قرب موقد خشبي في أطراف من غابة تندبيرك (كوخ هيدجر الخشبي الذي كتب فيه رائعته الوجود والزمن ، كما كان يلتقي فيه بحبيبته الفيلسوفة حانا والتي كانت الملهمة لهيدجر في فكرة الوجود والزمن) . فقد جاء في طرف من كتاب أطفال هيدجر شهادة  روجها المؤلف عن أطفال هيدجر  . حيث يقول : إن أطفال هيدجر كانوا ” يهوداً ” بلا يهودية ، والذين إكتشفوا بأن يهوديتهم هي التي سببت لهم صدمة قوية ، تمثلت في نزعة معاداة السامية في ظل أجواء الرايخ الثالث (ص 10) .   

  وأقول لبرفسور التاريخ ريتشارد ليون ، إن هؤلاء الأطفال الأربعة فلاسفة كبار ، وإن عددهم  قليل وحصرك لهم  بهذه الطريق ، فيه إجحاف للفلاسفة (اليهود مع الأسف ونحن نستخدم لغة البروفسور) وتقليل من مكانة الفيلسوف الروحي هيدجر في الوقت ذاته . والحقيقة إن قائمتنا أوسع ولدينا عدد أكبر من الفلاسفة الهيدجريون ومن إصول يهودية إذا سقطنا في فخ لغة البروفسور ريتشارد وليون . وهم فلاسفة إنسانيون تعالوا على التصنيف العرقي والديني رغم معاناتهم من النظام النازي ، وتطلعوا لأفاق إنسانية أكثر رحابة وتتسع للجميع . (وهناك قائمة بالهيدجريين الجدد وليس بأطفال هيدجر كما تعامل معهم البروفسور وليون . للإطلاع أنظر : محمد جلوب الفرحان ؛ هيدجر والهيدجريون الجدد (مصدر سابق)) .

  ولما كان الكتاب أطفال هيدجر في الأصل بضع مقالات نشرها المؤلف في دوريات ،  لهذا نحسب إن لملمتها في كتاب تحتاج ليد جراح ماهر . وهنا نشعر بأن بروفسور التاريخ لم يحالفه الحظ تماماً في توافر سكينة الجراح الماهر (وإن توافرت له ليقطع فيلسوف الفلاسفة هيدجر أوصالاً) إلا إنه فشل في لملمة مقالاته في نسيج كتاب موحد ، فقد كان الفصل السابع مثلاً غير متساوقاً وعنوان الكتاب أطفال هيدجر(وهذا الأمر ينطبق على الأوراق المتبقية من الكتاب والتي تكشف عناوينها عن محنة منهجية واجهت الكاتب وظلت قائمة تحكي هذه المحنة ، والتي حملت عناوين : الفصل السابع جاء بعنوان : مثال شعبي ألماني : هيدجر فيلسوف الطريق الألماني (ص ص 173 – 202) ، ومن ثم تبعه فصل بلا رقم جاء بعنوان مناقشة تفصيلية : الوجود والزمن : الرائعة الفاشلة (ص ص 203 – 232) . وأخيراً جاءت النتيجة (ص ص 233 – 237)) .

  وحتى إن الفصلين الأولين ؛ الأول والثاني هما الأخران غير متناغمين . اللهم إلا إذا قبلناهما على إنهما فصلين يمهدان للفصول الثالث والرابع والخامس والسادس ، وهي الفصول الجوهرية المتناغمة مع العنوان . إضافة إلى إن المؤلف (يعرف أو لا يعرف) بأن في دائرة الفلسفة الألمانية الذي ينتمي إليها الفيلسوف هيدجر و(أطفاله) ، ظهر كتاب بعنوان : أطفال كانط  أو خلفاء كانط الصغار ، والذي كتبه الكانطي الجديد أوتو لبيمان (1840 – 1912) ، والذي صدر عام 1865 (للتفاصيل أنظر : فردريك كوبلستن ؛ تاريخ الفلسفة / المجلد السابع / طبعة دبول دي ، نيويورك 1963 ، ص 361) وهو متوافر لبروفسور التاريخ في جميع مكتبات الجامعات الأمريكية .

 وهذه ثلمة منهجية من الناحية الأكاديمية في عمل بروفسور أكاديمي . ويبدو إن الغيرة والإنفعال اللذان لا علاقة لهما بالنهج الأكاديمي سدا طريق البحث العلمي النزيه في هذا الكتاب ، فترك المؤلف لفكرانيته العقيدية اللاهوتية السياسية تحرث بحرية دون إلتزام بخطوط أكاديمية حمراء لا يجوز تجاوزها بأي حال من الأحوال الأكاديمية . فرحم الله أكاديمياتنا العربية الغراء ، ما دامت أكاديميات الغرب بهذا الشكل الرفيع* … وعلى الدنيا السلام .

 ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

   *ظهر هذا الكتاب في عام 2001 ، وجميع الذين كتب عنهم المؤلف قد غادروا هذا العالم . فالفيلسوف الروحي لحركة الهيدجرية ” مارتن هيدجر ” توفي عام 1976 ، والأطفال حسب عنوان المؤلف ريتشارد وليون ، هم الأخرون قد غادروا هذه الدنيا ، فالفيلسوفة حانا توفيت عام 1975 أي قبل هيدجر بشهور . والهيدجري الجديد كارل لويث قد مات عام 1973 أي قبل أستاذه بثلاث سنوات وقبل زميلته حنا بسنتين ، والهيدجري الجديد هانز جونز توفي عام 1993 . أما الطفل الهيدجري الرابع ماركوز فقد توفي عام 1979 . ولعل الوحيد الذي بقي حياً (والذي لم يكن مشمولاً بالكتاب) حتى نشر كتاب أطفال هيدجر ، هو الهيدجري الجديد هانز جورج كادمير (1900 – 2002) والذي لا نحسب إنه عرف شيئاً عن كتاب أطفال هيدجر ، لأن عمره قد ناهز المئة  . وفعلاً فقد توفي بعد ظهور الكتاب بشهور معدودات . وبذلك لم تتوافر لهيدجر وأطفاله : حنا ولويث وجونز وماركوز ، فرصة للرد وتفنيد منهج بروفسور التاريخ ريتشارد وليون (أي تفنيد منهجه اللاتاريخي) .

  لللإطلاع على مكانة هؤلاءالفلاسفة الهيدجريون الجدد في فلسفة القرن العشرين(أنظر : الدكتور محمد جلوب الفرحان ؛ هيدجر والهيدجرية الجديدة / موقع الفيلسوف – عدد قادم)

———————————————————————————–

هذا المنشور نشر في Dr.MOHAMAD FARHAN, Hannah Arendt, Herbert Marcuse, Immanuel Kant, Jurgen Habermas, Kant and Neo - Kantianism, Kant's Children (1865) and Heidgger's Children (2001), Lukacs, Marxism, فردريك نيتشه, كارل ياسبرز, مقال حانا إرنديت هيدجر الثعلب ورد الفريدا هيدجر, مارتن هيدجر, مركز دريد للدراسات, هربرت ماركوز والدوران من الماركسية الوجودية وإلى الهيدجرية اليسارية, يورغن هابرمس, Walter Benjamin, أوتو لبيمان وكتابه كانط وخلفائه الصغار( الأطفال), أدموند هوسرل, أطفال هيدجر ومؤلفه ريتشارد وليون, إشبنجلر, إطروحة الدكتوراه للفيلسوف الهيدجري هانز جونز الدين الغنوصي, إعتراض الدكتور محمد جلوب الفرحان على الفيلسوفة حانا أرنديت في قولها هيدجر ليس ألمانياً وإنما كان كاثوليكياً, الفيلسوف كارل لويث, الفيلسوف هانز جونز, الفيلسوف هانز جورج كادمير, الفيلسوف الدكتور محمد جلوب الفرحان, الفيلسوف العلماني مارتن بوبر, الفيلسوفة حانا أرنديت, الفيلسوفة حانا إرنديت وإطروحتها للدكتوراه مفهوم الحب عند أوغسطين, الكانطي الجديد هنريخ ريكارت, الهيدجري كارل لويث وكتابه من هيجل حتى نيتشه, الدكتور محمد جلوب الفرحان وهيدجر والهيدجريون الجدد, تأمل أكاديمي حول عنوان أطفال هيدجر, دفاع الدكتور محمد جلوب الفرحان عن مارتن هيدجر فيلسوف فينومنولوجيا الحياة, زوجة هيدجر الفريدا وكلماته الدلالية , , , , . حفظ الرابط الثابت.